أوقات الصلاة
التقويم القمري
ساعة ماوس
اذاعة القران الكريم
أذكار الصباح والمساء
تجلّيات الفضاء المفتوح في شعر نزار قباني
صفحة 1 من اصل 1
تجلّيات الفضاء المفتوح في شعر نزار قباني
لا بدّ أولاً من توضيح بعض المفهومات في عنوان البحث للدخول في العالم الشعري لنزار قباني, فقد أصاب مصطلح "ESPACE" "الفضاء" ما أصاب بقيّة المصطلحات التي ترجمت إلى العربية من شهوة في فوضى التسمية، فاختلط الفضاء بالمكان وبالحيّز, وربما عاد ذلك إلى تعدّد استعمال المصطلح، وبخاصة بين جنس أدبي وآخر, وقد ذهب جميل صليبا إلى ترجمة "ESPACE" بالمكان أو الموضع, وهو المحلّ (Lieu) المحدّد الذي يشغله الجسم. تقول: مكان فسيح, ومكان ضيّق,
وهو مرادف للامتداد "Etendue"(1), وللأخير عند الحكماء عدة معانٍ: الصورة الجسمية أو البُعد أو الامتداد وهو جزء من المكان, وهو متناهٍ, أما المكان فغير متناهٍ, وقد فرّق ديكارت بين الامتداد والمكان، فذهب إلى أنّه لا فرق بينهما بالقياس إلى الجسم إلاَّ من حيث إنّ الامتداد خارجي, والمكان داخلي, فإذا نظرت إلى الحيّز من حيث إنّه داخلي للجسم سمّي هذا الحيّز مكاناً, وإذا نظرت إليه من حيث إنّه صورة خارجية للجسم سُمّي امتداداً"(2).
ويحصر أحد الدارسين مفهوم الفضاء بناء على الدراسات التي تناولت السرد الروائي في أربعة أشكال:
1 ـ الفضاء الجغرافي (l'espace Gèographique): مقابل لمفهوم المكان, ويتولّد عن طريقة الحكي, وهو الفضاء الذي يتحرّك فيه الأبطال, ولكلّ دارس طريقته في الدراسة، فثمة من يدرسه في استقلال كامل عن المضمون، وثمة من يدرسه من خلال الدلالات الملازمة له, كدراسة النص دراسة تناصية وعلاقته مع النصوص لعصر أو حقبة تاريخية محدّدة، وهذا ما فعلته كريستيفا حين أدخلت المدلول الثقافي ضمن تصوّر المكان.
2 ـ الفضاء النّصّي (l'espace textual): يُقصد به الحيّز الذي تشغله الكتابة ذاتها بصفتها أحرفاً طباعية على مساحة الورق, ويشمل ذلك طريقة تصميم الغلاف, وتنظيم الفصول, وتغيّرات الكتابة المطبعية، وتشكيل العنوانات, والكتابة الأفقية والعمودية.. إلخ.
3 ـ الفضاء الدلالي (l'espace Sèmantique): يهتمّ بدراسة الصور والدلالات المجازية، أي فضائية اللغة الأدبية في علاقتها مع المعنى.
4 ـ الفضاء بصفته منظوراً, وهو يهتم بالطريقة التي يستطيع الراوي بوساطتها الهيمنة على عالمه الحكائي"(3).
والفضاء مصطلح اشتغل عليه نقّاد الرواية في الغرب, وهو أقرب إلى العالم أو المحيط أو الإطار الذي تتشكّل الرواية أو العمل الأدبي داخله, ويشمل جميع الأماكن والأزمنة والشخصيات واللغة، ولذلك هو مفهوم واسع وشامل, فهو يتضمّن الأحداث التي تقتضي استمرارية العمل الأدبي, في حين أن المكان "lieu" هو الحيّز الذي تجري فيه الأحداث, ولذلك يمكننا أن نُطلق مصطلح "الفضاء" على المكان النّصي الذي يشكّله القارئ بخياله من خلال دوران الأحداث وتحرّك الشخصيات.
والنّص (Texte), وبخاصة الغنيّ منه, عالم مستقلّ وكائن حيّ وفضاء مفتوح, وهو يشبه بذرة تنتج نبتة تُشبه في كثير من الصفات التي تشكّل جنسها سواها, ولكنّها تختلف عن مثيلاتها في صحتها ونموّها وعطائها وخصوصيتها, وهي تأخذ شكلها وتشكّلها من البذرة التي تعود إلى طبيعة الجنس, كما تأخذ خصوصيتها من التربة والمحيط اللذين تعيش فيهما, ولأنّها لا تكون نسخة عن سواها حتى لا تُصاب بالنمطية، ولذلك كانت خصوصية أيّ نصّ أدبي ضرورية لبقائه, ومن هنا فإنّ كلّ عنصر في النص هو نصّيّ أولاً وأخيراً, وهو مختلف في تشكّله قليلاً أو كثيراً عما هو عليه في الواقع, فالأيديولوجيا في النص نصّيّة، وكذا شأن المفردات والتراكيب والإيقاع والصور، لأنّ إعادة الإنتاج من خلال التفاعل والصهر جعلت هذه العناصر مختلفة موضوعاً وشكلاً عما كانت عليه في السابق.
والفضاء المفتوح ناجم عن النص المفتوح, وهذا يقتضي منا أن نحدّد طبيعة النص المغلق, وهو نهائيّ ومحدّد سلفاً في ذاكرة المؤلف والقارئ, أو هو نص لا إشكاليّ ومغلق على ذاته, وهو ذو بُعد واحد وطبقة واحدة ودلالة متّفق عليها, وهو عبارة أخرى يكرِّر ما تقوله الثقافة السائدة، ولا يصدم أفق انتظار القارئ, فهو فقير بدلالاته, وقراءة واحدة تكفيه.. أما النص المفتوح فهو حمّال أوجه ودلالات, وهو طبقات من المعنى، أو هو يحمل في بنيته الظاهر والبطن والإيجابي والسلبي, ولذلك لا يستقرّ على معنى محدّد ومتّفق عليه بين القارئ والنص, وقد قال بول فاليري: "ليس من معنىً حقيقي لنصّ ما"(4)، وهذا يقتضي أن يكون للنص المفتوح قراءة عادية وقراءة تأويلية، فهو يُثير أسئلة أكثر مما يقدّم أجوبة، وهو نصّ الاختلاف لا نصّ الاتفاق, ولذلك سنتوقف ـ بناء على معطيات القراءة لشعر نزار قباني ـ عند:
1 ـ الفضاء المعجمي المفتوح.
2 ـ الفضاء الاجتماعي المفتوح ودلالاته.
3 ـ الفضاء النّصّيّ (الثقافي) المفتوح.
ـ 2 ـ
الفضاء المعجمي المفتوح:
كان الفضاء اللغوي في الشعر العربي في سورية قبل نزار قباني مفتوحاً على المعجم ومنغلقاً على الحياة ولغة العصر, وكانت مفردات الشعراء ذات مصدر وحيد: المعاجم, وأيّ مفردة معاصرة أو محدثة محرّمة من الدخول إلى حرم الشعر, وإن كانت جميلة حسناء, في حين كان الشعر في لبنان والمهجر قد انفتح على الحياة والعصر, بقوّة، وقد سمح الشعراء لأنفسهم بأن يعبّروا عما يجيش في داخلهم بحرية تامة، ونحن نتذكر المعركة التي قامت في مصر حول استخدام جبران لمفردة استخداماً انزياحيّاً(5).
وربما ساعد على هذا الانغلاق أن معظم الشعراء الأعلام في سورية كانوا من ذوي الثقافة اللغوية الخالصة، فقد كان الشاعر محمد البزم (1884 ـ 1955م) ذا ثقافة تقليدية خالصة(6), ولذلك ظل شعره يجلجل بالصور القديمة والمعاني المعروفة، وكأنه في صدر الشعر الأمويّ يثير النقع ويزجي الفيالق, وكان شعره "يغصّ بالمفردات والصور التقليدية. وظلّ كذلك طوال عمره. فقد كان يغوص على المعاجم ويرافق كتب اللغة ويصحب قواعد النحو"(7), حتى إنّ طموح هذا الشاعر كان يقف عند تصيّد المفردات الغربية من بطون المعاجم, فهو في وصفه لغوطة دمشق الفيحاء يتخيّر بعض المفردات التي تحتاج إلى وقفة طويلة مع المعاجم, كما في قوله:
إذا انْحدرْتَ فَسَابِغاتٌ نُجِّدَتْ
فيها النَّمَارِقُ والحُلَى تنجيدا
وإذا عَلَوْتَ فَلُجَّةٌ من خَضْرَةٍ
تجري بسابِحَةِ اللِّحاظِ مَدِيدَا
وافترَّ ثغرُ الليلِ عن أندائِها
حَبَباً على أَزهارِها مَنْضُودا
وكأنَّما رُكِزَتْ على أَثْبَاجِهَا
تيجانُ أهلِ الخافِقَيْنِ بُنُودا(
وإذا أراد أن يصف مدينة حماه ويمدح أهلها ارتحل إليها بالسيارة بدلاً من الناقة أو البعير, ولكنّه يختار مفردات صحراوية خالصة لوصف هذه المطيّة العصرية:
دَعْهَا تَجُبْ حالكةَ الدَّياجِرِ
باحثةً عن لُجَّةِ الهواجِرِ
يُقْلِقُ سَمْعَ الرَّكْبِ من هديرها
حَمْحَمَةٌ لا تَرْعَوِي لزاجرِ
تَخَطَّفُ الأرضَ ولا يشكو الثَّرى
وطأ لها, صخَّابَة الزَّماجِرِ(9)
وقد تصل المبالغة باستعمال المفردات الحوشية الغريبة إلى درجة لا تُحتمل, كما هي الحال في قصيدته "أدنى حماريك ازجري" فقد تحوّلت القصيدة إلى ما يُشبه الأحاجي والألغاز:
أَدْنَى حمارَيْكِ ازْجُري
وَأَسْرِعي وشَمْجري
وَعَرِّسي وَهَجِّري
وبايعي واتَّجري
وإنْ ظمئْتِ غمجري
وذا الدواءُ أوجري
واختمري واحتجري
واحتبسي وفجّري
وفرِّجي وزنجري
وأَبرقي وَزَمْجِري
وَارْعَيْ أُصُولَ الشَّجَرِ
فيا قريعَ "الشَّجَرِيّ"
أَوْعِزْ لهذا الْحَجَر
يَحْذَرْ شباةَ خَنجَري
فقد طرحْتُ مَنْجَرِي
إذْ جَفَّ ضَرْعُ خنجري
فَلْيَحْتَرِسْ مِنْ زَمْجَرِي
وَيَلْتَحِقْ "بِالْمَهْجَرِ"
أو ببلادِ المجرِ
ولا يُقَلِّدْ منجري
فَمَنْ يُفَسَّقْ يَفْجُرِ
وقد نَفَضَتُ عُجَرِي
وَدَخْلَتِي وبُجَري
وَلُذْتُ بِالْمُثْغَنْجَرِ
وما أنا بخَنْجَري(10)
ولا تحتاج هذه القصيدة إلى أيّ تعليق سوى ما قلناه عن تصيّد الشاعر للمفردات المدفونة في بطون المعاجم، وكأنّ الشعر يتوقف عند هذه الغاية، أو كأنّ وظيفة الشاعر تقتصر على إعادة الحياة لمفردات لم تُكتب لها الحياة في زمن ولادتها, ولا يختلف عن ذلك كثيراً شعر خليل مردم (1895 ـ 1959م)، وخير الدين الرزكلي (1893 ـ 1976م)، وشفيق جبري (1898 ـ 1980م)، وبدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) (1904 ـ 1981م)، وعمر أبو ريشة (1908 ـ 1990م)، فخليل مردم يصف حال الأمة العربية المجزّأة بقوله:
أكلُّ حاضرةٍ دارٌ لمملكةٍ
أبعادُ ما بَيْنَهُنَّ الفتر والبصم
لمفحصٍ من أفاحيصِ القطا حرجٌ
حامتْ على سَمْتِهِ العقبانُ والرَّخَمُ
أبقى وأوسع عند الظنِّ من دولٍ
ليستْ بمملكةٍ بل إنَّها رُجَمُ(11)
ويقول خير الدين الزركلي في قصيدته "الفاجعة":
بَلَدٌ تَبَوَّأ الشَّقَاءَ فكلّما
قدمَ استقامَ لهُ بهِ تجديدُ
لانَتْ عريكةُ قاطنيهِ وما دَرَوْا
أنَّ الضعيفَ مُعَذَّبٌ منكودُ(12)
ويقول شفيق جبري في قصيدته له بعنوان "وطني":
وطني دمشقُ وما احْتَوَيْتُ ظلالَهُ
يا دهرُ إنَّكَ قد أَطَلْت نِزَالَهُ
ماذا جَنَى؟ حتَّى شَدَدْتَ عِقَالَهُ
باللهِ حُلَّ إنِ اسْتَطَعْتَ عِقَالَهُ(13)
إنّ هذه الأبيات وسواها كثير وكثير من الشعر العربي في سورية تترسم خُطا القدماء في الصورة والمعاني والمعجم الشعري, حتى إنَّ سامي الدهان يعلّق على أربعة أبيات من قصيدة لشفيق جبري بعنوان "شطّ المزار" بقوله: "وفي هذه الأبيات ألفاظ تعتمد على الصفائح واللهاذم وربّات الحجال, لا صلة بينها وبين العصر في صورها ولوازمها. ولا رابط بين الأبيات نفسها"(14).
ولدت القصيدة النزارية في هذا المناخ الشعري التقليدي الجافّ, وكأنّها نبتة غريبة غُرست في غير تربتها, وكان نزار مختلفاً عن شعراء الشام, وهو بعيد عنهم في طراوة شعره وسلاسة إيقاعاته ومرونة لغته, بل هو كما صرّح في "قصتي مع الشعر" ينتمي إلى المدرسة اللبنانية، فانفتح معجمه الشعري على مفردات ذات مصادر وينابيع مختلفة، واخترق المقدّس المعجمي نتيجة لإيمانه بأنّ الشعر كالخبز والماء والهواء ضروري لحياة الناس, وليس هو لطبقة من دون أخرى، ولا هو للملوك من دون الرعاع, ولذلك اتسع الفضاء الشعري في القصيدة النزارية نتيجة لاتساع فئات المتلقين وتنوّع مشاربهم وثقافتهم, بدءاً من النخبة وانتهاء بالناس العاديين, وكانت القصيدة النزارية تلبّي مطاليب هؤلاء وأولئك, فانفتح المعجم الشعري على روافد ومصادر مختلفة.
كانت مفردات نزار قباني التي اختارها من المعاجم بعيدة عمّا هو غريب وحوشيّ ووحشيّ, فلم يأبه نزار لجزالة اللفظ ولا لفصاحته, وإنما كان منذ بداياته الشعرية ينتقي مفرداته بعين صائغ خبير, كما ينتقي عارض الأزياء عارضاته, فمفرداته في تنافس شديد على عرش الجمال, فاستبعد كلّ مفردة غريبة وإن كانت جزلة، وكأنّه استهدى إلى معجمه من مبدأ جبران في مقالته التي ردّ بها على المتعنتين الجامدين "لكم لغتكم ولي لغتي", فابتعد عن مفردات الشعراء الصعاليك وشعراء الحماسة والفصاحة والخطابة والجزالة والإنشاء, والتجأ إلى ينابيع الحياة والعصر ينهل منها حتى الارتواء, وكان للمفردات الجسدية وما يتصل بها نصيب وافر, وبخاصة أنَّه كان في مجموعاته الأولى "قالت لي السمراء ـ طفولة نهد ـ سامبا ـ أنتِ لي...." إلخ شاعر الأنثى بلا منازع, فكانت دائرة معجمه صغيرة، ولكنّها غنيّة بالمفردات التي تعود إلى حقل الجسد الأنثوي "النهد ـ الحلمة ـ العين ـ الشفتان ـ الساقان ـ الأنامل ـ الهدب ـ الرموش.. إلخ), وهي غنية أيضاً بالمفردات التي تنتمي إلى حقل لباس الأنثى "الجوارب ـ الدانتيل ـ ثوب النوم الوردي ـ المايوه الأزرق.. إلخ)، ومفردات الزينة والعطور "أحمر الشفاه ـ مانيكور ـ شذا ـ أريج ـ عطور ـ عبير ـ مسك.. إلخ)، ومفردات تنتمي إلى حقل النباتات العطرية والجمالية والأشجار "البنفسج ـ الفلّ ـ الياسمين ـ الزنبق ـ الورد الدمشقي ـ النعناع ـ الحبق ـ الريحان ـ المنثور ـ الآس ـ البيلسان ـ الأقحوان ـ غاردينيا ـ الصفصاف ـ السنديان ـ النخيل ـ النارنج ـ الشربين.. إلخ", وأخرى تنتمي إلى حقل الطيور, ومنها "حمام ـ عصفور ـ بلبل ـ شحرور ـ بجع بحري, طاووس.. إلخ"، أو تنتمي إلى حقل الألحان, كـ "الرصد ـ البيات ـ الحجاز ـ النهاوند.. إلخ", وهكذا كان معجمه الفصيح يمثّل الجسدية والجمال, وكأنّه شاعر من الشعراء البرناسيين لا يهتمّ إلاَّ بما هو يتوهّج ويتألّق ويضيء, وهذا الرافد الأول من روافد المعجم الشعري في جماليات القصيدة النزارية.
ثمة رافد آخر وهو ما يدور بكثرة على ألسنة الناس, فقد كان نزار لا يتورّع في سبيل تلوين إيقاعات القصيدة من أن يستخدم أحياناً بعض المفردات العامية السائرة, فاستخدم ـ مثلاً ـ مردة "كفي" ويعني "راحتي" على لسان الأنثى في "يوميات امرأة لا مبالية":
على كرّاستي الزرقاء.. استرخي على كَيْفي..
وأهربُ من أفاعي الجنْسِ والإرهابِ والخوفِ..(15)
ويستخدم مفردة "كرمال" بدلاً من "كرمى أو كرامة":
كِرْمالُ هذا الوجهِ والعينينْ
قد زارنا الربيعُ هذا العامَ مرَّتَيْنْ
وزارنا النبيُّ مرَّتَيْنْ(16)
سعى نزار من خلال روافده المعجمية إلى أن يقدّم قصيدته للمتلقي بأسلوب سهل ممتنع, وأن يخاطب المتلقين إناثاً وذكوراً, كباراً وصغاراً, مثقفين وسواهم, بلغة سلسلة سهلة التناول غنيّة بالصور والإيحاءات, وقد قال أحد الدارسين: "ولعلّ نزار قباني خير من يمثّل ـ في معظم ما كتب ـ تلك الواقعية اللغوية، فاستطاع أن يحقّق لغة الحديث اليومية في شعره وأن يطبعها في الوقت نفسه بطابع غنّي بالظلال والإيحاء وعناصر لغة الشعر الخالص"(17), وذهب إلى أن نزاراً استطاع أن يَفصِّح العامي وإلى أنَّه "خير مَنْ طوَّع العامية للشعر الفصيح, كما أنّه خير من طوّع الفصحى للعامية، من غير أن يخرج عن حدود الفصحى"(18), واستطاع نزار أن يكون صوت الجيل الجديد في سورية في الأربعينيات, ولذلك واجه غضب المحافظين، وهذا ما عبّر عنه محيي الدين صبحي: "أما نزار قباني فقد كان يعبّر بشكل عفوي عن حاجة الجيل الطالع للحبّ والانطلاق والحرية الاجتماعية، ولذلك واجه ثورة من المحافظين على الأسلوب القديم لأنّه استخدم بعض الكلمات العامية بأسلوب بسيط تقتضيه الحياة والبوح, كما أنَّ الشاعر لاقى ثورة من الجامدين الذين يقاومون تطور الحياة"(19), وكان أعنف هجوم تلقّاه نزار من الشيخ علي الطنطاوي الذي تحصّن بالأخلاق والعادات والتقاليد، وشنَّ هجوماً كاسحاً على ديوان نزار "قالت لي السمراء"، وسخر منه سخرية مرَّة, ومما قاله فيه: "وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسّط وتجديد في قواعد النحو لأنّ النّاس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول, ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه فلم يكن بدّ من هذا التجديد"(20).
أما الرافد الثالث فهو في استخدام مفردات أجنبية معرّبة أو من دون تعريب, كـ "سمفونية ـ تلفون ـ مانيكور ـ مايوه ـ سوناتا ـ توليب ـ غاردينيا)، وقد جاء هذا الاستخدام قليلاً في بدايات نزار الشعرية ومفترقاً ومألوفاً, ولكنّه تطوّر مع تقدّمه في الشهرة، ونتيجة لتجواله في البلدان المختلفة، وكأن نزاراً نسي أو تناسى بيانه الشعري في مقدمة مجموعته الثانية "طفولة نهد" في أن يجعل الشعر ضرورة لكل مواطن، فإذا هو يستخدم في المقطع (96) من "مئة رسالة حبّ", إذ زار متحف الهيرميتاج في مدينة ليننغراد عاصمة القياصرة، مجموعة من أسماء الأعلام الرسامين في العالم:
الهيرميتاج هو فندق كلّ عباقرة العالم. فيه ينامون.. وفيه يرسمون.. وينحتون.. هنا وطن الفنانين.. فلوحات رينوار, وماتيس, وفان غوخ, وغويا, والعريكو، وروبنس, الموجودة هنا أعظم من آثارهم الموجودة في بلادهم الأصلية(21).
ويقول في المقطع الخامس من قصيدة "أقرأ جسدَكِ.. وأتتفَّف..":
ماذا نفعلُ في هذا الوطن؟
الذي يعرف كلَّ شيء عن ثورة أكتوبر..
وثورة الزنْج..
وثورة القرامِطةْ..
ويتصرّف مع النساء كأنّه شيخ طريقَهْ..
ماذا نفعلُ في هذا الوطن الضائعْ..
بين مؤلفات الإمام الشافعي.. ومؤلفات لينينْ..
بين المادية الجدليّة.. وصور (البورنو)..
بين كتب التفسير.. ومجلة (البلاي بويْ)..
بين فرقة (المعتزلة).. وفرقة (البيتلزْ)..
بين رابعة العدوية.. وبين (إيمانويلْ)..(22)
ويلاحظ القارئ أن نزاراً بدأ يتجه إلى هذا الرافد منذ وقت مبكر, حتى إنّه في مجموعته الرابعة "أنتِ لي" 1950 ذهب إلى أن يعنون إحدى قصائده بـ "Ala gasconne" بالحروف اللاتينية، وهو يستنكر فيها بشدة ما قامت به أنثاه حين قصّت شعرها الطويل, وتشبّهت بالغلمان, وكأنها قامت بعمل جنوني أساء إلى أنوثتها الباذخة، بل حذفها من الحياة واهتمام الشاعر بها, وحوّلها إلى امرأة حمقاء, فأنهى الشاعر قصيدته بهذه الخاتمة الغاضبة:
بَلْهَاءُ.. شاحبةَ الجبينِ.. تُرَى
أطْفَأْتِ ثَأْركِ منهُ فاعْتَدِّي
حَلَّ الشِّتاءُ بكلِّ زاويةٍ
فَالثَّلْجُ عندَ مفاتقِ النَّهْدِ
لا تكشفي العُنُق الغلامَ فلا
عاشَتْ جِرَاحُ اللوزِ... من بَعْدي
لا تَقْرَبِيني.. أنتِ ميِّتَةٌ
إنَ السَّوَالِفَ, مجدُهَا مَجْدِي..(23)
ـ 3 ـ
الفضاء الاجتماعي المفتوح ودلالاته:
يمثّل الشعر بصفته أعلى درجات الثقافة عند العرب نظاماً سيميولوجياً للتواصل الثقافي, فهو رسالة (message) من الباث إلى المتلقي, فإذا كانت هذه الرسالة مألوفة وعادية فإنّها لا تتجاوز الرسائل القديمة في فاعليتها, أما إذا كانت مفاجئة وصادقة فإنّها حينذاك تُثير حولها كثيراً من الأسئلة والتكهّنات, ويختلف المتلقّون حولها بين مؤيد ومعارض, ويحدث الصراع بين قبولها ورفضها, وقد ظلّ الشعر العربي في سورية مألوفاً وعاديّاً ومحافظاً على القيم, ومتشدّداً في العادات والتقاليد, سواء كان ذلك في الموضوعات, كشعر النضال الوطني والقومي فيما بين الحربين أم كان في الموضوعات الاجتماعية التي لم تخرج عمّا هو مرسوم لها, حتى إنَّ محمد البزم يذهب في قصيدته "الحجاب"(24) إلى أنّ السفور شرّ من الشرور، وإنّ المرء ليعجب أشدّ العجب حين ينتهي من قراءة ديوان "نوح العندليب" لشاعر الشام شفيق جبري, ويسأل نفسه عن المرأة والغزل، فلا يستطيع أن يقدّم أيّ إجابة، وكأنّ المرأة نوع من المحرمات والمقدسات لا يجوز الاقتراب منه, وهذا مناقض لطبيعة الشعر العربي في تاريخه الطويل, ولم أعثر في حياتي كلِّها على أفقر مما قرأت في الباب الثاني من "نوح العندليب" وهو بعنوان "الطبيعة والمرأة" فهو حديث عن هديل الحمام وترقيص الطفلة، وإذا كان ثمة قصيدة تقترب من بعيد إلى الغزل فهي معارضة، وإذا سئل الشاعر عن شعره الغزلي خجل من نفسه كلّ الخجل وأحس بشيء من الضعف.. إلخ(25).
كان لصدور مجموعة "قالت لي السمراء" في عام 1944 عن دار الأحد بدمشق ضجّة كبيرة، فقد انتقل الشعر فجاءة من الفضاء المغلق إلى فضاء مفتوح, وكانت هذه المجموعة بداية لتحولات خطيرة في الشعر العربي في سورية, وخصوصاً فيما يتصل بالتعبير عن إحساسات الأنثى مباشرة، أو إقامة علاقات جديدة بين الأنثى ومحيطها, أو اقتحام المقدّس وهتك ما هو محرّم في وصف الجسد الأنثوي بدءاً من الشفتين إلى النهدين والحلمتين وتشجيع الأنثى على أن تعيش حياتها على هواها من دون رقيب أو محاسب, بل هو يدعوها صراحة في قصيدته "نهداك" من مجموعته "قالت لي السمراء" إلى أن تقتنص فرص الشباب قبل أن يفوت الأوان حيث ساعة لا ينفع الندم, ويدعوها متجاوزاً كلّ الأعراف والتقاليد إلى ارتكاب المعصية:
لا تفزعي.. فاللثْمُ للشعراءِ غيرُ مُحَرَّمِ
فُكِّيِ أسيريْ صَدْرِكِ الطفْلَيْن.. لا.. لا تظَلمي
نَهْدَاكِ ما خُلِقَا لِلَثْمِ الثَّوْبِ.. لكنْ للفمِ
مجنونةٌ مَنْ تحجبُ النهدينِ أو هي تحتمي
مجنونةٌ مَنْ مرَّ عَهْدُ شبابها لم تُلْثَمِ"(26)
لم يشتغل نزار قباني على القضايا الاجتماعية التي اشتغل عليها قاسم أمين و معروف الرصافي والزهاوي وغيرهم, كضرورة تعليم المرأة، وضرورة اختيارها لشريك العمر أو قضية عملها, أو طلاقها, وإنما انحاز إلى المدرسة اللبنانية في البحث عن مواطن الجمال في الأنثى، ونزار رسّام ماهر, وهو مغرم بالألوان والتفاصيل الحسّية، ولوحته متعدّدة الألوان وإن كانت تحمل وجهاً واحداً, فالصورة في شعره متنقلة، وإذا كان المشبه واحداً فإنَّ المشبّه به متعدّد, كما هي الحال في قصيدته "حلمة" من مجموعته الثانية "طفولة نهد" 1948, فهو لم يدع وجهاً من وجوه المشبه به في الطبيعة إلاَّ ذكره لبيان جماليات هذه الحلمة، وليست هذه الصور توضيحية، وإنّما هي صور جمالية لتقديم اللوحة على أفضل ما يجب أن تكون عليه:
تهزهزي وثُوري
يا خُصْلَةَ الحريرِ
يا مبسمَ العصفور يا
أرجوحةَ العبيرِ
يا حرفَ نارٍ سابحاً
في بِرْكَتَي عُطُورِ
يا كلِمْةً مهموسةً
مكتوبةً بنورِ
سمراءُ بل حمراءُ.. بل
لَوَّنَهَا شعوري
دُمَيْعَةٌ حافيةٌ
في ملعبٍ غميرِ
أم قُبْلَةٌ تجمَّدَتْ
في نْهدِكِ الصغير..إلخ(27)
ونزار قباني شاعر الممنوعات والمحرّم الجنسي, وقصيدته تقتحم التابو "Tabou" الاجتماعي والبلاغي بقوة، وقد سمح للأنثى أن تبوح بأسرارها ومشاعرها لأمّها, فإذا المحرّم في قصيدة "حكاية" مباح, وإذا السّر الدفين غناءٌ, وهذه هي المراهقة الدمشقية تروي حكايتها لأمها:
كنتُ أعدُو في غابة اللوزِ.. لمَّا
قالَ عنِّي, أُمَّاهُ, إنّي حُلْوَهْ
وعلى سالفي.. غفا زِرٌّ وَرْدٍ
وقميصي تَفَلَّتَتْ منه عُرْوَهْ
قالَ ما قالَ.. فالقميصُ جحيمٌ
فوق صدري, والثَّوْبُ يقطرُ نَشْوَهْ
قالَ لي: مبسمي وُرَيْقَةُ تُوتٍ
ولقد قالَ: إنَّ صَدْريَ ثَرْوَهْ
وَرَوَى لي عن ناهِدَيَّ حكايا
فهما جَدْولاَ نبيذٍ وَقَهْوَهْ
وهما دَوْرَقَا رحيقٍ ونُورٍ
وهما رَبْوَةٌ تُعانِقُ رَبْوَهْ
أَأَنَا حُلْوَةٌ؟.. وَأيْقَظَ أُنْثى
في عُرُوقي, وَشَقَّ للنُّورِ كُوَّهْ
إنَّ في صَوْتِهِ قَرَاراً رخيماً
وبأحْدَاقِهِ.. بريقُ النُّبُوَّهْ
جَبْهَةٌ حُرَّةٌ.. كما انْسَرَحَ النُّو
رُ وثَغْرٌ فيهِ اعتدادٌ وقَسْوَهْ
يَغْصِبُ الْقُبْلَةَ اغتصاباً
وجميلٌ أنْ يُؤْخَذَ الثَّغْرُ غُنْوَهْ
وَرَدَدْتُ الجفونَ عنه حَيَاءً
وَحَيَاءُ النِّسَاءِ للحُبِّ دَعْوَهْ
تستحي مُقلَتي.. ويَسْأَلُ طُهْري
عن شَذَاهُ.. كأنَّ للطُهْرِ شَهْوَهْ
أنتِ.. لن تُنْكِري عليَّ احتراقي
كُلُّنا في مجامرِ النَّار نِسْوَهْ(28)
ونتوقّف أخيراً في هذا المجال عند عمارة شعرية من أهمّ عمارات نزار قباني, وهي قصيدته "يوميات امرأة لا مبالية"، ويتألف هذا العمل من استهلال ورسالة ويوميات, ففي الاستهلال إشارة لعنوان العمل "يوميات امرأة لا مبالية" من جهة وتلخيص له من جهة أخرى، وهو يشكّل صوت نزار قباني وبيان هدفه من العمل, وهو أن تثور الأنثى على وضعها الحريمي في الشرق, لتخرج من الفضاء المغلق الذي وُضعت فيه عبر تاريخها الطويل إلى الفضاءات المفتوحة والمستقبل المنشود, وهذا لا يتمّ ولا يتحقّق إلا من خلال هذه الثورة:
ثُوري! أحبُّكِ أن تَثُوري..
ثوري على شرق السَّبَايا.. والتكايا.. والبَخُورِ
ثوري على التاريخ, وانتصري على الوهمِ الكبيرِ
لا ترهبي أحداً.. فإنَّ الشَّمْسَ مقبرةُ النسورِ
ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوق السَّريرِ
نزار (29)
يمثّل هذا الاستهلال صوت نزار ووجهة نظره, وهو مذيَّل باسمه الأول, وهذا يشير صراحة إلى أنَّ المرأة لا يمكن أن تنال حقوقها وهي صامتة، وعليها أن تُعلن ثورتها على النظام الأبوي البطريركي, ثم إنّ نزار يبيّن في هذا الاستهلال وقوفه إلى جانبها, كما يصف معاناتها القاسية في هذا الشرق الذي لا ينظر إليها إلاّ على أنها متعة الرجل فوق الفراش, ولذلك كان هذا الاستهلال يمثّل الاتصال والانفصال عن النص, فهو متصل به من حيث إنَّه الغاية من النص, وهو ثورة المرأة، ومنفصل عن النَّص لأن المتكلّم هنا من جنس الذكور، وإن كان يتعاطف مع حقوق المرأة ويدعو إلى تحريرها.
وتتألف بنية القصيدة من مقطعين: الأول بعنوان "رسالة إلى رجل ما" وهي رسالة مؤلفة من خمسة مقاطع يتناول فيها الشاعر على لسان هذه المرأة حالتها في الشرق الذي يحتقر الأنثى ويئدها, والرسالة بمجموع مقاطعها مقدمة عن حال المرأة ومعاناتها في شرقنا, ونقدّم صورة عن ذلك من خلال المقطع الثالث:
لا تنتقدْني سيّدي
إنْ كانَ خطّي سيّئاً...
فإنَّني أكتبُ والسَّيَّافُ خَلْفَ بابي
وخارجَ الحجرةِ صوتُ الرِّيحِ والكلابِ..
يا سيّدي!
عنترةُ العبسيُّ خَلْفَ بابي
يذبحُني..
إذا رأى خطابي..
يقطعُ رأسي..
لو أنا عبَّرْتُ عن عذابي...
فشرقُكُمْ يا سيّدي العزيزْ
يحاصرُ المرأة بالحرابِ..
وشرقُكُمْ, يا سيّدي العزيزْ
يُبايعُ الرجالَ أنبياءً
ويطمرُ النساءَ في الترابِ..(30)
أما المقطع الثاني فهو بعنوان "اليوميات"، وهو صُلب العمل, وفيه ستة وثلاثون مقطعاً على وزن (مفاعلتن) تروي من خلالها هذه المرأة حكايتها في الشرق وما تواجهه الأنثى في هذا المكان المغلق أو السجن الكبير الذي يسمونه الشرق, فالأنثى كائن غير مرغوب به سلفاً, وهو محكوم عليه بالإعدام منذ ولادته:
أنا أنثى..
أنا أنثى
نهارَ أتيتُ للدنيا
وجدْتُ قرارَ إعدامي
ولم أرَ بابَ محكمتي
ولم أرَ وجْهَ حكّامي(31)
والمشكلة التي تواجهها هذه الأنثى معقّدة وصعبة الحلّ, فكلّ من في المنزل الذي تحوّل إلى سجن يكرهها ويراقبها مراقبة شديدة، ولذلك هي في منزل الموتى كما تسميه في المقطع الرابع, ولكن المشكلة أبعد من ذلك, وهي تواجه جسدها الذي أخذ يثور عليها ثورة عارمة بعد أن تفتّحت مساماته, وكأنها ألسنة تصرخ في كلّ اتجاه تطلب الحرية:
لمنْ صدري أنا يكبرْ؟
لمنْ.. كَرَزَاتُهُ دارتْ؟
لمنْ.. تُفَّاحُهُ أَزْهرْ؟
لمنْ؟
صحنانِ صينيَّانِ.. من صدفٍ ومن جَوْهَرْ
لمنْ؟ قَدَحَانِ من ذهبٍ..
وليس هناكَ من يَسْكَرْ؟
لمنْ شَفَةٌ مناديةٌ
تجمَّدَ فوقَها السُّكَّرْ؟
أللشيطانِ.. للديدانِ.. للجدران لا تُقْهَرْ؟
أُربِّيها, وضوءَ الشَّمْس أسقيها
سنابلَ شعريَ الأشْقَرْ..(32)
وإذا كان لهذا الجسد سلطة تبحث عن الحرية فثمة سلطة أخرى تواجهها بالقيود والسلاسل, وهي السلطة الذكورية البطريركية المتمثلة في سلطة الأب المستبد, ولذلك ترفض هذه الأنثى أن تعيش في قفص, ولو كان من ذهب خالص:
كفرتُ أنا.. بمالِ أبي
بلؤلؤهِ.. بفضَّتِهِ..
أبي.. لم ينتبهْ يوماً
إلى جسدي.. وثورتِهِ
أبي رجلٌ أنانيٌّ
مريضٌ في محبَّتِهِ
مريضٌ في تعصُّبِهِ
مريضٌ في تَعنُّتِهِ..
يثورُ.. إذا رأى صدري
تمادى في استدارتِهِ
يثورُ.. إذا رأى رجلاً
يُقَرِّبُ من حديقتِهِ..
أبي لن يمنعَ التُّفَّاحَ عن إكمالِ دورتِهِ
سيأتي ألفُ عصفورٍ
ليسرقَ من حديقتِهِ..(33)
ولذلك توازن هذه المرأة حياتها بحياة القطّ الأسود في المقطع الثاني عشر، فإذا هو يعيش في المنزل حرّاً سيِّداً, وهي مسجونة في قمقم موصد, ثمّ تقيم موازنات أخرى، فإذا كلّ الأشياء حولها تعيش حرّة وطبيعية، ووحدها الأنثى في هذا السجن ـ الشرق غير مسموح لها بأن تُعَبّر عن ذاتها, والغريب العجيب أنّ الشرق يسمح للأخ الذكر أن يعود من الماخور سكرانَ عند الصباح من دون عيب في حين تُسجن الأنثى من دون أي سبب, وكأنّ الذكر من طينة مختلفة، ثم تتناول هذه الأنثى بعين انتقادية عيوب الشرق المجبول بالأخطاء والفواحش, فالشرق أرض الخرافات والجهل (المقطع 29), والرجل في الشرق بدءاً من الأب إلى الأخ إلى رجال القبيلة هو السَّيَّاق مسرور (المقطع 31)، والجنس في الشرق ناقص لأنّه مقتصر على متعة الرجل (المقطع 2), والدِّين يحرّف لمصلحة الرجل (المقطع 33), والعار الوحيد في الشرق هو الأنثى، ويقف هذا العار عند حدود الزنّار (المقطع 34)، والمشكلة التي يعانيها الشرقي الازدواجية في حياته, فهو يكره الأنثى ظاهرياً ويعبد جسدها في الخفاء, ولذلك لا حلّ لمشكلة هذه الأنثى إلاَّ الفرار من هذا الجحيم إلى وطن الحريات:
أريدُ البحثَ عن وطنٍ..
جديدٍ غير مسكونِ
وربِّ لا يُطاردني.
وأرضٍ لا تُعَاديني..
أريد أفرُّ من جِلْدِي..
ومن صوتي.. ومن لُغَتي
وأشردُ مثلَ رائحةِ البساتينِ
أريدُ أفرُّ من ظلّي
وأهربُ من عناويني..
أريدُ أفرُّ من شرقِ الخرافةِ والثعابينِ
منَ الخلفاءِ.. والأمراءِ..
من كلَّ السلاطينِ..
أريدُ أحبُّ.. مثلَ طيورِ تشرينِ..
أيا شرقَ المشانقِ والسكاكينِ..(34)
تجتاح هذه القصيدة عالم السرد واليوميات بمقاطع ذات شعرية عالية، وهي قصيدة طويلة تتجرأ على المسكوت عنه بخطاب أنثوي يواجه السلطة الذكورية الغاشمة، وتقدّم فضاءين مختلفين: فضاء تقليدياً, وهو صورة المرأة المتواكلة المستسلمة لمصيرها في هذا السجن الكبير الذي نسمّيه الشرق, وهي قابعة بانتظار فارس الأحلام الذي سيجيء على جواد أبيض لينتشلها مما هي يه, وهذا الفضاء مغلق, وهو فضاء الواقع والتقاليد والسلطة الذكورية، وثمة فضاء آخر تدعو إليه هذه الأنثى الرافضة لمصيرها المتروك لعوامل الزمن وأوراق الحظ، وهو الفضاء الاجتماعي المفتوح على الحريات, ولذلك عليها أن تثور على واقعها المرّ, وتحارب العادات والتقاليد والسلطة الذكورية التي تعلّبها وتجعل منها سلعة للبيع والشراء, وقد ترك نزار هذا الفضاء بلا تحديد, لأن تحديده يجعله مغلقاً, وكأنّه يريد من المتلقي أن يتصوّره وفق هواه.
ـ 4 ـ
الفضاء النّصّي (الثقافي) المفتوح:
ليست القصيدة النزارية جزيرة معزولة عن العالم, وإنما هي نصّ يتغذّى من النصوص العربية والعالمية، وهو فضاء مفتوح تناصيّاً على نصوص سبقته أو عاصرته, وليس المهم أن تكون درجات الإبداع واحدة بين النّص الأول والنّص الثاني, فقد أخذ نزار من سواه وأعطى فيما بعد لكثير من الشعراء الأعلام وسواهم, ولذلك سأقف هنا عند تجربتين شعريتين انفتح فيهما النّص النزاري على سواه: الأولى بين إلياس أبي شبكة ونزار والثانية بين جاك بريفير ونزار.
يصف أبو شبكة الرذيلة في عمله "أفاعي الفردوس" وصفاً أسطورياً ليتطهّر الإنسان منها على طريقة أرسطو في نظرية التطهير, وكأنّ في داخله كاهناً كبيراً وفارساً مدافعاً عن القيم والمعتقدات، ولذلك كان ممزّقاً بين الواقع والمثال، فالأنثى ـ عنده ـ مثال خالص وطهر رومانسي يجمع الجسد إلى الروح في بوتقة واحدة، فلما فاجأته أنثى ذات زوج وطفل برغبتها الجسدية العارمة استنكر ذلك منها, وصبَّ عليها جام غضبه مهتدياً بالشاعر الرومانسي الفرنسي ألفريد دي فيني في غضبته العارمة على جنس النساء في قصيدته "la colère de Samson" ليصرخ من أعماقه:
Et, Plus ou moins, la Femme est toujours Dalila(35).
صبّ إلياس أبو شكبة جام غضبه على الأنثى الخائنة في قصيدته "الأفعى" 1929, فقال:
وما زُغْتُ من وجٍ فَدَارَجْتُهُ
ولائي, وفي هذا الولا بُغْيَةٌ نُكْرا
فلمّا قَطَرْتُ الصِّدْقَ خُبْثاً بصدرِهِ
قَطَرْتُ لَهُ في نَسْلِهِ قطرةً أخرى
أقولُ لها: أعراقُ زوجِكِ لم تَزَلْ
وفي قلبِهِ عَطْفُ الأُبَوَّةِ لم يَبْرَ
ولمَ يَبْرَ إحساسُ الرجالِ بصدرِهِ
فَحُبُّكِ يجري منه في الجهةِ اليسرى
أقولُ لها: ثَوْبَ العفافِ تذكَّري
ففي ساعةِ الإكليلِ لم يَكُ مُغْبَرَّا
لبسْتِ رداءَ العرسِ أبيضَ ناصعاً
فمن أين جاءتْ هذه اللطخةُ الحمرا؟(36)
وأبو شبكة لا يحمّل هذه الأنثى وحدها تبعات ما قامت به من خيانة الزوج المخدوع الضحية، وإنّما هو يسخر من شريكها القاتل, وهو الرجل الثاني الزاني, فيخاطبه ويذكّره بطفولة بريئة عبثت بها السخافات:
سَتَمْلكُهَا ما شئتَ, بَعْدُ, فلا تَخَفْ
فإنَّ ابنَها لمّا يزلْ يَجهَلُ الأمرا
صغيرٌ, بريءُ العين, يرضى بلعبةٍ
فيرقد مغبوطاً بذي الهبةِ الكبرى
ينامُ, ولا يدري بأنَّ سخافةً
تلهَّى بها, كانت لموبقةٍ سِعْرَا(37)
يعود أبو شبكة إلى هذه الأنثى في قصيدته "في هيكل الشهوات" 1929, ليستنكر ما كان منها, ويوبّخها توبيخاً دينيّاً, وكأنّه يحكم عليها باللعنة الأبدية، فيقول:
وأنتِ, يا أمَّ طفلٍ في تلفُّتِهِ
سُؤْلُ العفافِ وفي أجفانِهِ لَعِبُ
صُبِّي الخمورَ فهذا العصرُ عصرُ طلاً
أما السُّكارى فهم أبناؤُهُ النُّجُبُ(...)
أما أنا, ولوِ اسْتَسْلَمْتُ أمسِ إلى
خمرِ الليالي, فقلبي ليسَ يَنْشَعِبُ
قد أشربُ الخمرَ لكنْ لا أُدَنِّسُهَا
وأقربُ الإثْمَ لكنْ لَسْتُ أرْتَكِبُ
وفي غدٍ إذ تُنِيرُ الطفلَ ميعَتُهُ
وتهرمينَ ويبقى ذلك الْخَشَبُ
قولي له: جئتَ في عصر الخمورِ فلا
تشربْ سوى الخمرِ واشحبْ مثلما شحبوا(..)
قولي لـه: عِفَّةُ الأجسادِ قد ذَهَبَتْ
معَ الجدودِ الأعفَّاءِ الأُلَى ذَهَبُوا(38)
لم يسلم نزار, وبخاصة في بداياته الشعرية، من هيمنة أبي شبكة عليه(39), وهو يستعيد في قصيدته "مدنّسة الحليب" في مجموعته "قالت لي السمراء" تجربة أبي شبكة في "أفاعي الفردوس", وقد بدا هذا التأثر واضحاً وهو يترسم خُطاهُ في صياغة قصيدة "شمشون" في الوزن (الخفيف) والأسلوب، فقال أبو شبكة في مطلع قصيدته:
ملِّقيهِ بحُسْنِكِ المأْجُورِ
وادْفَعيِهِ للانتقامِ الكبيرِ(40)
وقال نزار:
أطعميه... من ناهديكِ اطْعميهِ
واسْكبي أعكرَ الحليب بِنَيهِ(41)
وهو يستصرخ صور الخيانة على طريقة أبي شبكة، فيقول:
اِتَّقي الله.. في رخامٍ مُعَرَّى
خَشَبُ المهدِ كادَ أن يَشْتَهِيهِ
نَشِفَتْ فَوْرَةُ الحليب بِثَدْيَيْـ
ـكِ طعاماً لزائرٍ مَشْبُوهِ
زَوْجُكِ الطِّيبُ البسيطُ بعيدٌ
عنكِ, يا عِرْضَهُ وأمَّ بَنِيهِ
ساذجٌ, أبيضُ السَّريرةِ, أَعْطَا
كِ سوادَ العينينِ كي تشربيهِ
يَتْرُكُ الدَّارَ خاليَ الظَّنِّ... ماذا؟
أيشكُُّ الإنسانُ في أهْلِيهِ
أَوَآذَاكِ يا لئيمةُ... حتَّى
في قَدَاسَاتِ نَسْلِِ تُؤْذِيهِ(42)
ويستعيد نزار في الوقت نفسه صورة ذلك الطفل الذي تحدَّث عنه أبو شبكة:
والرَّضيعُ الزَّحَّافُ في الأرضِ يَسْعَى
كلُّ أمرٍ من حولِهِ لا يَعِيهِ
أمُّهُ في ذراعِ هذا المُسَجَّى
إنْ بكى الدَّهْرَ سوفَ لا تأتيهِ
أَاَبُوهُ هذا ويا رُبَّ مَوْلُو
دٍ أَبُوهُ الضجيعُ غيرُ أبيهِ(43)
هكذا استعاد نزار تجربة أبي شبكة بحرارة أقلّ, والنّصان يختلفان, فنصّ أبي شبكة أقرب إلى الهلع من الخطيئة المميتة التي كان أبو شبكة يخشاها, في حين كان نزار أقرب إلى العادات والتقاليد, وكان كلاسيكياً محافظاً في هذا النص, في حين كان أبو شبكة رومانسياً خالصاً.
والتجربة الثانية هي للشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900 ـ 1977م) في قصيدته الشهيرة "وجبة الصباح" "Dèjeuner du matin" المنشورة في مجموعة "كلمات" "Paroles" سنة 1948, تقصّ علينا امرأة جلست إلى جانب رجل في مطعم من دون أن يعيرها أيّ اهتمام في عالم غدا أقرب إلى الآلية في سلوكه ما شاهدته من تصرّفات الرجل الذي تقاسمت معه الطاولة:
وضعَ القهوةَ/ في الفنجان
وضع الحليب/ في فنجان القهوة
وضع السّكّر/ في القهوة بالحليب
حرّكها/ بالمعلقة الصغيرة
شرب القهوة بالحليب/ ووضع الفنجان
من دون أن يكلّمني
أشعل سيجارة/ نفث دوائر/ من دخانٍ
ألقى الرماد/ في المنفضة/ من دون أن يكلّمني
من دون أن ينظر إليّ
نهض/ وضع قبّعته على رأسه/ ارتدى معطف الشتاء
لأنَّ المطر كان يهطل/ وانصرف تحت زخّات المطر
من دون كلمة/ من دون أن ينظر إليّ
وأنا قد وضعتُ/ رأسي بين يديّ/ وبكيت
ُ(44)
وقد استعاد نزار قباني هذه التجربة في قصيدته "مع جريدة" في مجموعته الخامسة "قصائد" 1956, فقال على لسان امرأة:
أخرجَ من معطفه الجريدَة..
وعلبةَ الثقابِ
ودونَ أن يلاحظَ اضطرابي...
ودونما اهتمام
تناولَ السّكّرَ من أمامي...
ذوَّبَ في الفنجان قطعَتيْنْ
ذوَّبَني... ذوَّبَ قطعَتيْنْ
وبعدَ لحظتيْنْ
ودونَ أن يراني
ويعرفَ الشوقَ الذي اعتراني...
تناولَ المعطفَ من أمامي
وغابَ في الرخامِ
مخلِّفاً وراءَهُ الجريدَة
وحيدةً
مثلي أنا... وحيدَة(45)
هذه بعض تجلّيات الفضاء المفتوح في شعر نزار قباني: قصائد تخترقُ العاديَّ والمألوف مفرداتٍ ولغةً وصوراً, وتتجاوز الفضاءات الاجتماعية المغلقة بمقدّساتها وحرّاسها إلى فضاءات أكثر عدالة وتنوعاً, واجتياز المحرّمات والممنوعات والتجاسر على الأعراف والتقاليد لبناء عالم المساواة والعدل والحرية, عالم سليم معافى، واختراق الثقافة النصية الجامدة والبلاغة التقليدية إلى فضاء ثقافي عربي وغربي تتفاعل فيه النصوص الشعرية لتشكيل نصوص قادرة على أن تكون فاعلة في الحياة الجديدة وفضاءاتها المفتوحة على غير بُعد ومستوى واتجاه.
وهو مرادف للامتداد "Etendue"(1), وللأخير عند الحكماء عدة معانٍ: الصورة الجسمية أو البُعد أو الامتداد وهو جزء من المكان, وهو متناهٍ, أما المكان فغير متناهٍ, وقد فرّق ديكارت بين الامتداد والمكان، فذهب إلى أنّه لا فرق بينهما بالقياس إلى الجسم إلاَّ من حيث إنّ الامتداد خارجي, والمكان داخلي, فإذا نظرت إلى الحيّز من حيث إنّه داخلي للجسم سمّي هذا الحيّز مكاناً, وإذا نظرت إليه من حيث إنّه صورة خارجية للجسم سُمّي امتداداً"(2).
ويحصر أحد الدارسين مفهوم الفضاء بناء على الدراسات التي تناولت السرد الروائي في أربعة أشكال:
1 ـ الفضاء الجغرافي (l'espace Gèographique): مقابل لمفهوم المكان, ويتولّد عن طريقة الحكي, وهو الفضاء الذي يتحرّك فيه الأبطال, ولكلّ دارس طريقته في الدراسة، فثمة من يدرسه في استقلال كامل عن المضمون، وثمة من يدرسه من خلال الدلالات الملازمة له, كدراسة النص دراسة تناصية وعلاقته مع النصوص لعصر أو حقبة تاريخية محدّدة، وهذا ما فعلته كريستيفا حين أدخلت المدلول الثقافي ضمن تصوّر المكان.
2 ـ الفضاء النّصّي (l'espace textual): يُقصد به الحيّز الذي تشغله الكتابة ذاتها بصفتها أحرفاً طباعية على مساحة الورق, ويشمل ذلك طريقة تصميم الغلاف, وتنظيم الفصول, وتغيّرات الكتابة المطبعية، وتشكيل العنوانات, والكتابة الأفقية والعمودية.. إلخ.
3 ـ الفضاء الدلالي (l'espace Sèmantique): يهتمّ بدراسة الصور والدلالات المجازية، أي فضائية اللغة الأدبية في علاقتها مع المعنى.
4 ـ الفضاء بصفته منظوراً, وهو يهتم بالطريقة التي يستطيع الراوي بوساطتها الهيمنة على عالمه الحكائي"(3).
والفضاء مصطلح اشتغل عليه نقّاد الرواية في الغرب, وهو أقرب إلى العالم أو المحيط أو الإطار الذي تتشكّل الرواية أو العمل الأدبي داخله, ويشمل جميع الأماكن والأزمنة والشخصيات واللغة، ولذلك هو مفهوم واسع وشامل, فهو يتضمّن الأحداث التي تقتضي استمرارية العمل الأدبي, في حين أن المكان "lieu" هو الحيّز الذي تجري فيه الأحداث, ولذلك يمكننا أن نُطلق مصطلح "الفضاء" على المكان النّصي الذي يشكّله القارئ بخياله من خلال دوران الأحداث وتحرّك الشخصيات.
والنّص (Texte), وبخاصة الغنيّ منه, عالم مستقلّ وكائن حيّ وفضاء مفتوح, وهو يشبه بذرة تنتج نبتة تُشبه في كثير من الصفات التي تشكّل جنسها سواها, ولكنّها تختلف عن مثيلاتها في صحتها ونموّها وعطائها وخصوصيتها, وهي تأخذ شكلها وتشكّلها من البذرة التي تعود إلى طبيعة الجنس, كما تأخذ خصوصيتها من التربة والمحيط اللذين تعيش فيهما, ولأنّها لا تكون نسخة عن سواها حتى لا تُصاب بالنمطية، ولذلك كانت خصوصية أيّ نصّ أدبي ضرورية لبقائه, ومن هنا فإنّ كلّ عنصر في النص هو نصّيّ أولاً وأخيراً, وهو مختلف في تشكّله قليلاً أو كثيراً عما هو عليه في الواقع, فالأيديولوجيا في النص نصّيّة، وكذا شأن المفردات والتراكيب والإيقاع والصور، لأنّ إعادة الإنتاج من خلال التفاعل والصهر جعلت هذه العناصر مختلفة موضوعاً وشكلاً عما كانت عليه في السابق.
والفضاء المفتوح ناجم عن النص المفتوح, وهذا يقتضي منا أن نحدّد طبيعة النص المغلق, وهو نهائيّ ومحدّد سلفاً في ذاكرة المؤلف والقارئ, أو هو نص لا إشكاليّ ومغلق على ذاته, وهو ذو بُعد واحد وطبقة واحدة ودلالة متّفق عليها, وهو عبارة أخرى يكرِّر ما تقوله الثقافة السائدة، ولا يصدم أفق انتظار القارئ, فهو فقير بدلالاته, وقراءة واحدة تكفيه.. أما النص المفتوح فهو حمّال أوجه ودلالات, وهو طبقات من المعنى، أو هو يحمل في بنيته الظاهر والبطن والإيجابي والسلبي, ولذلك لا يستقرّ على معنى محدّد ومتّفق عليه بين القارئ والنص, وقد قال بول فاليري: "ليس من معنىً حقيقي لنصّ ما"(4)، وهذا يقتضي أن يكون للنص المفتوح قراءة عادية وقراءة تأويلية، فهو يُثير أسئلة أكثر مما يقدّم أجوبة، وهو نصّ الاختلاف لا نصّ الاتفاق, ولذلك سنتوقف ـ بناء على معطيات القراءة لشعر نزار قباني ـ عند:
1 ـ الفضاء المعجمي المفتوح.
2 ـ الفضاء الاجتماعي المفتوح ودلالاته.
3 ـ الفضاء النّصّيّ (الثقافي) المفتوح.
ـ 2 ـ
الفضاء المعجمي المفتوح:
كان الفضاء اللغوي في الشعر العربي في سورية قبل نزار قباني مفتوحاً على المعجم ومنغلقاً على الحياة ولغة العصر, وكانت مفردات الشعراء ذات مصدر وحيد: المعاجم, وأيّ مفردة معاصرة أو محدثة محرّمة من الدخول إلى حرم الشعر, وإن كانت جميلة حسناء, في حين كان الشعر في لبنان والمهجر قد انفتح على الحياة والعصر, بقوّة، وقد سمح الشعراء لأنفسهم بأن يعبّروا عما يجيش في داخلهم بحرية تامة، ونحن نتذكر المعركة التي قامت في مصر حول استخدام جبران لمفردة استخداماً انزياحيّاً(5).
وربما ساعد على هذا الانغلاق أن معظم الشعراء الأعلام في سورية كانوا من ذوي الثقافة اللغوية الخالصة، فقد كان الشاعر محمد البزم (1884 ـ 1955م) ذا ثقافة تقليدية خالصة(6), ولذلك ظل شعره يجلجل بالصور القديمة والمعاني المعروفة، وكأنه في صدر الشعر الأمويّ يثير النقع ويزجي الفيالق, وكان شعره "يغصّ بالمفردات والصور التقليدية. وظلّ كذلك طوال عمره. فقد كان يغوص على المعاجم ويرافق كتب اللغة ويصحب قواعد النحو"(7), حتى إنّ طموح هذا الشاعر كان يقف عند تصيّد المفردات الغربية من بطون المعاجم, فهو في وصفه لغوطة دمشق الفيحاء يتخيّر بعض المفردات التي تحتاج إلى وقفة طويلة مع المعاجم, كما في قوله:
إذا انْحدرْتَ فَسَابِغاتٌ نُجِّدَتْ
فيها النَّمَارِقُ والحُلَى تنجيدا
وإذا عَلَوْتَ فَلُجَّةٌ من خَضْرَةٍ
تجري بسابِحَةِ اللِّحاظِ مَدِيدَا
وافترَّ ثغرُ الليلِ عن أندائِها
حَبَباً على أَزهارِها مَنْضُودا
وكأنَّما رُكِزَتْ على أَثْبَاجِهَا
تيجانُ أهلِ الخافِقَيْنِ بُنُودا(
وإذا أراد أن يصف مدينة حماه ويمدح أهلها ارتحل إليها بالسيارة بدلاً من الناقة أو البعير, ولكنّه يختار مفردات صحراوية خالصة لوصف هذه المطيّة العصرية:
دَعْهَا تَجُبْ حالكةَ الدَّياجِرِ
باحثةً عن لُجَّةِ الهواجِرِ
يُقْلِقُ سَمْعَ الرَّكْبِ من هديرها
حَمْحَمَةٌ لا تَرْعَوِي لزاجرِ
تَخَطَّفُ الأرضَ ولا يشكو الثَّرى
وطأ لها, صخَّابَة الزَّماجِرِ(9)
وقد تصل المبالغة باستعمال المفردات الحوشية الغريبة إلى درجة لا تُحتمل, كما هي الحال في قصيدته "أدنى حماريك ازجري" فقد تحوّلت القصيدة إلى ما يُشبه الأحاجي والألغاز:
أَدْنَى حمارَيْكِ ازْجُري
وَأَسْرِعي وشَمْجري
وَعَرِّسي وَهَجِّري
وبايعي واتَّجري
وإنْ ظمئْتِ غمجري
وذا الدواءُ أوجري
واختمري واحتجري
واحتبسي وفجّري
وفرِّجي وزنجري
وأَبرقي وَزَمْجِري
وَارْعَيْ أُصُولَ الشَّجَرِ
فيا قريعَ "الشَّجَرِيّ"
أَوْعِزْ لهذا الْحَجَر
يَحْذَرْ شباةَ خَنجَري
فقد طرحْتُ مَنْجَرِي
إذْ جَفَّ ضَرْعُ خنجري
فَلْيَحْتَرِسْ مِنْ زَمْجَرِي
وَيَلْتَحِقْ "بِالْمَهْجَرِ"
أو ببلادِ المجرِ
ولا يُقَلِّدْ منجري
فَمَنْ يُفَسَّقْ يَفْجُرِ
وقد نَفَضَتُ عُجَرِي
وَدَخْلَتِي وبُجَري
وَلُذْتُ بِالْمُثْغَنْجَرِ
وما أنا بخَنْجَري(10)
ولا تحتاج هذه القصيدة إلى أيّ تعليق سوى ما قلناه عن تصيّد الشاعر للمفردات المدفونة في بطون المعاجم، وكأنّ الشعر يتوقف عند هذه الغاية، أو كأنّ وظيفة الشاعر تقتصر على إعادة الحياة لمفردات لم تُكتب لها الحياة في زمن ولادتها, ولا يختلف عن ذلك كثيراً شعر خليل مردم (1895 ـ 1959م)، وخير الدين الرزكلي (1893 ـ 1976م)، وشفيق جبري (1898 ـ 1980م)، وبدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) (1904 ـ 1981م)، وعمر أبو ريشة (1908 ـ 1990م)، فخليل مردم يصف حال الأمة العربية المجزّأة بقوله:
أكلُّ حاضرةٍ دارٌ لمملكةٍ
أبعادُ ما بَيْنَهُنَّ الفتر والبصم
لمفحصٍ من أفاحيصِ القطا حرجٌ
حامتْ على سَمْتِهِ العقبانُ والرَّخَمُ
أبقى وأوسع عند الظنِّ من دولٍ
ليستْ بمملكةٍ بل إنَّها رُجَمُ(11)
ويقول خير الدين الزركلي في قصيدته "الفاجعة":
بَلَدٌ تَبَوَّأ الشَّقَاءَ فكلّما
قدمَ استقامَ لهُ بهِ تجديدُ
لانَتْ عريكةُ قاطنيهِ وما دَرَوْا
أنَّ الضعيفَ مُعَذَّبٌ منكودُ(12)
ويقول شفيق جبري في قصيدته له بعنوان "وطني":
وطني دمشقُ وما احْتَوَيْتُ ظلالَهُ
يا دهرُ إنَّكَ قد أَطَلْت نِزَالَهُ
ماذا جَنَى؟ حتَّى شَدَدْتَ عِقَالَهُ
باللهِ حُلَّ إنِ اسْتَطَعْتَ عِقَالَهُ(13)
إنّ هذه الأبيات وسواها كثير وكثير من الشعر العربي في سورية تترسم خُطا القدماء في الصورة والمعاني والمعجم الشعري, حتى إنَّ سامي الدهان يعلّق على أربعة أبيات من قصيدة لشفيق جبري بعنوان "شطّ المزار" بقوله: "وفي هذه الأبيات ألفاظ تعتمد على الصفائح واللهاذم وربّات الحجال, لا صلة بينها وبين العصر في صورها ولوازمها. ولا رابط بين الأبيات نفسها"(14).
ولدت القصيدة النزارية في هذا المناخ الشعري التقليدي الجافّ, وكأنّها نبتة غريبة غُرست في غير تربتها, وكان نزار مختلفاً عن شعراء الشام, وهو بعيد عنهم في طراوة شعره وسلاسة إيقاعاته ومرونة لغته, بل هو كما صرّح في "قصتي مع الشعر" ينتمي إلى المدرسة اللبنانية، فانفتح معجمه الشعري على مفردات ذات مصادر وينابيع مختلفة، واخترق المقدّس المعجمي نتيجة لإيمانه بأنّ الشعر كالخبز والماء والهواء ضروري لحياة الناس, وليس هو لطبقة من دون أخرى، ولا هو للملوك من دون الرعاع, ولذلك اتسع الفضاء الشعري في القصيدة النزارية نتيجة لاتساع فئات المتلقين وتنوّع مشاربهم وثقافتهم, بدءاً من النخبة وانتهاء بالناس العاديين, وكانت القصيدة النزارية تلبّي مطاليب هؤلاء وأولئك, فانفتح المعجم الشعري على روافد ومصادر مختلفة.
كانت مفردات نزار قباني التي اختارها من المعاجم بعيدة عمّا هو غريب وحوشيّ ووحشيّ, فلم يأبه نزار لجزالة اللفظ ولا لفصاحته, وإنما كان منذ بداياته الشعرية ينتقي مفرداته بعين صائغ خبير, كما ينتقي عارض الأزياء عارضاته, فمفرداته في تنافس شديد على عرش الجمال, فاستبعد كلّ مفردة غريبة وإن كانت جزلة، وكأنّه استهدى إلى معجمه من مبدأ جبران في مقالته التي ردّ بها على المتعنتين الجامدين "لكم لغتكم ولي لغتي", فابتعد عن مفردات الشعراء الصعاليك وشعراء الحماسة والفصاحة والخطابة والجزالة والإنشاء, والتجأ إلى ينابيع الحياة والعصر ينهل منها حتى الارتواء, وكان للمفردات الجسدية وما يتصل بها نصيب وافر, وبخاصة أنَّه كان في مجموعاته الأولى "قالت لي السمراء ـ طفولة نهد ـ سامبا ـ أنتِ لي...." إلخ شاعر الأنثى بلا منازع, فكانت دائرة معجمه صغيرة، ولكنّها غنيّة بالمفردات التي تعود إلى حقل الجسد الأنثوي "النهد ـ الحلمة ـ العين ـ الشفتان ـ الساقان ـ الأنامل ـ الهدب ـ الرموش.. إلخ), وهي غنية أيضاً بالمفردات التي تنتمي إلى حقل لباس الأنثى "الجوارب ـ الدانتيل ـ ثوب النوم الوردي ـ المايوه الأزرق.. إلخ)، ومفردات الزينة والعطور "أحمر الشفاه ـ مانيكور ـ شذا ـ أريج ـ عطور ـ عبير ـ مسك.. إلخ)، ومفردات تنتمي إلى حقل النباتات العطرية والجمالية والأشجار "البنفسج ـ الفلّ ـ الياسمين ـ الزنبق ـ الورد الدمشقي ـ النعناع ـ الحبق ـ الريحان ـ المنثور ـ الآس ـ البيلسان ـ الأقحوان ـ غاردينيا ـ الصفصاف ـ السنديان ـ النخيل ـ النارنج ـ الشربين.. إلخ", وأخرى تنتمي إلى حقل الطيور, ومنها "حمام ـ عصفور ـ بلبل ـ شحرور ـ بجع بحري, طاووس.. إلخ"، أو تنتمي إلى حقل الألحان, كـ "الرصد ـ البيات ـ الحجاز ـ النهاوند.. إلخ", وهكذا كان معجمه الفصيح يمثّل الجسدية والجمال, وكأنّه شاعر من الشعراء البرناسيين لا يهتمّ إلاَّ بما هو يتوهّج ويتألّق ويضيء, وهذا الرافد الأول من روافد المعجم الشعري في جماليات القصيدة النزارية.
ثمة رافد آخر وهو ما يدور بكثرة على ألسنة الناس, فقد كان نزار لا يتورّع في سبيل تلوين إيقاعات القصيدة من أن يستخدم أحياناً بعض المفردات العامية السائرة, فاستخدم ـ مثلاً ـ مردة "كفي" ويعني "راحتي" على لسان الأنثى في "يوميات امرأة لا مبالية":
على كرّاستي الزرقاء.. استرخي على كَيْفي..
وأهربُ من أفاعي الجنْسِ والإرهابِ والخوفِ..(15)
ويستخدم مفردة "كرمال" بدلاً من "كرمى أو كرامة":
كِرْمالُ هذا الوجهِ والعينينْ
قد زارنا الربيعُ هذا العامَ مرَّتَيْنْ
وزارنا النبيُّ مرَّتَيْنْ(16)
سعى نزار من خلال روافده المعجمية إلى أن يقدّم قصيدته للمتلقي بأسلوب سهل ممتنع, وأن يخاطب المتلقين إناثاً وذكوراً, كباراً وصغاراً, مثقفين وسواهم, بلغة سلسلة سهلة التناول غنيّة بالصور والإيحاءات, وقد قال أحد الدارسين: "ولعلّ نزار قباني خير من يمثّل ـ في معظم ما كتب ـ تلك الواقعية اللغوية، فاستطاع أن يحقّق لغة الحديث اليومية في شعره وأن يطبعها في الوقت نفسه بطابع غنّي بالظلال والإيحاء وعناصر لغة الشعر الخالص"(17), وذهب إلى أن نزاراً استطاع أن يَفصِّح العامي وإلى أنَّه "خير مَنْ طوَّع العامية للشعر الفصيح, كما أنّه خير من طوّع الفصحى للعامية، من غير أن يخرج عن حدود الفصحى"(18), واستطاع نزار أن يكون صوت الجيل الجديد في سورية في الأربعينيات, ولذلك واجه غضب المحافظين، وهذا ما عبّر عنه محيي الدين صبحي: "أما نزار قباني فقد كان يعبّر بشكل عفوي عن حاجة الجيل الطالع للحبّ والانطلاق والحرية الاجتماعية، ولذلك واجه ثورة من المحافظين على الأسلوب القديم لأنّه استخدم بعض الكلمات العامية بأسلوب بسيط تقتضيه الحياة والبوح, كما أنَّ الشاعر لاقى ثورة من الجامدين الذين يقاومون تطور الحياة"(19), وكان أعنف هجوم تلقّاه نزار من الشيخ علي الطنطاوي الذي تحصّن بالأخلاق والعادات والتقاليد، وشنَّ هجوماً كاسحاً على ديوان نزار "قالت لي السمراء"، وسخر منه سخرية مرَّة, ومما قاله فيه: "وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسّط وتجديد في قواعد النحو لأنّ النّاس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول, ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه فلم يكن بدّ من هذا التجديد"(20).
أما الرافد الثالث فهو في استخدام مفردات أجنبية معرّبة أو من دون تعريب, كـ "سمفونية ـ تلفون ـ مانيكور ـ مايوه ـ سوناتا ـ توليب ـ غاردينيا)، وقد جاء هذا الاستخدام قليلاً في بدايات نزار الشعرية ومفترقاً ومألوفاً, ولكنّه تطوّر مع تقدّمه في الشهرة، ونتيجة لتجواله في البلدان المختلفة، وكأن نزاراً نسي أو تناسى بيانه الشعري في مقدمة مجموعته الثانية "طفولة نهد" في أن يجعل الشعر ضرورة لكل مواطن، فإذا هو يستخدم في المقطع (96) من "مئة رسالة حبّ", إذ زار متحف الهيرميتاج في مدينة ليننغراد عاصمة القياصرة، مجموعة من أسماء الأعلام الرسامين في العالم:
الهيرميتاج هو فندق كلّ عباقرة العالم. فيه ينامون.. وفيه يرسمون.. وينحتون.. هنا وطن الفنانين.. فلوحات رينوار, وماتيس, وفان غوخ, وغويا, والعريكو، وروبنس, الموجودة هنا أعظم من آثارهم الموجودة في بلادهم الأصلية(21).
ويقول في المقطع الخامس من قصيدة "أقرأ جسدَكِ.. وأتتفَّف..":
ماذا نفعلُ في هذا الوطن؟
الذي يعرف كلَّ شيء عن ثورة أكتوبر..
وثورة الزنْج..
وثورة القرامِطةْ..
ويتصرّف مع النساء كأنّه شيخ طريقَهْ..
ماذا نفعلُ في هذا الوطن الضائعْ..
بين مؤلفات الإمام الشافعي.. ومؤلفات لينينْ..
بين المادية الجدليّة.. وصور (البورنو)..
بين كتب التفسير.. ومجلة (البلاي بويْ)..
بين فرقة (المعتزلة).. وفرقة (البيتلزْ)..
بين رابعة العدوية.. وبين (إيمانويلْ)..(22)
ويلاحظ القارئ أن نزاراً بدأ يتجه إلى هذا الرافد منذ وقت مبكر, حتى إنّه في مجموعته الرابعة "أنتِ لي" 1950 ذهب إلى أن يعنون إحدى قصائده بـ "Ala gasconne" بالحروف اللاتينية، وهو يستنكر فيها بشدة ما قامت به أنثاه حين قصّت شعرها الطويل, وتشبّهت بالغلمان, وكأنها قامت بعمل جنوني أساء إلى أنوثتها الباذخة، بل حذفها من الحياة واهتمام الشاعر بها, وحوّلها إلى امرأة حمقاء, فأنهى الشاعر قصيدته بهذه الخاتمة الغاضبة:
بَلْهَاءُ.. شاحبةَ الجبينِ.. تُرَى
أطْفَأْتِ ثَأْركِ منهُ فاعْتَدِّي
حَلَّ الشِّتاءُ بكلِّ زاويةٍ
فَالثَّلْجُ عندَ مفاتقِ النَّهْدِ
لا تكشفي العُنُق الغلامَ فلا
عاشَتْ جِرَاحُ اللوزِ... من بَعْدي
لا تَقْرَبِيني.. أنتِ ميِّتَةٌ
إنَ السَّوَالِفَ, مجدُهَا مَجْدِي..(23)
ـ 3 ـ
الفضاء الاجتماعي المفتوح ودلالاته:
يمثّل الشعر بصفته أعلى درجات الثقافة عند العرب نظاماً سيميولوجياً للتواصل الثقافي, فهو رسالة (message) من الباث إلى المتلقي, فإذا كانت هذه الرسالة مألوفة وعادية فإنّها لا تتجاوز الرسائل القديمة في فاعليتها, أما إذا كانت مفاجئة وصادقة فإنّها حينذاك تُثير حولها كثيراً من الأسئلة والتكهّنات, ويختلف المتلقّون حولها بين مؤيد ومعارض, ويحدث الصراع بين قبولها ورفضها, وقد ظلّ الشعر العربي في سورية مألوفاً وعاديّاً ومحافظاً على القيم, ومتشدّداً في العادات والتقاليد, سواء كان ذلك في الموضوعات, كشعر النضال الوطني والقومي فيما بين الحربين أم كان في الموضوعات الاجتماعية التي لم تخرج عمّا هو مرسوم لها, حتى إنَّ محمد البزم يذهب في قصيدته "الحجاب"(24) إلى أنّ السفور شرّ من الشرور، وإنّ المرء ليعجب أشدّ العجب حين ينتهي من قراءة ديوان "نوح العندليب" لشاعر الشام شفيق جبري, ويسأل نفسه عن المرأة والغزل، فلا يستطيع أن يقدّم أيّ إجابة، وكأنّ المرأة نوع من المحرمات والمقدسات لا يجوز الاقتراب منه, وهذا مناقض لطبيعة الشعر العربي في تاريخه الطويل, ولم أعثر في حياتي كلِّها على أفقر مما قرأت في الباب الثاني من "نوح العندليب" وهو بعنوان "الطبيعة والمرأة" فهو حديث عن هديل الحمام وترقيص الطفلة، وإذا كان ثمة قصيدة تقترب من بعيد إلى الغزل فهي معارضة، وإذا سئل الشاعر عن شعره الغزلي خجل من نفسه كلّ الخجل وأحس بشيء من الضعف.. إلخ(25).
كان لصدور مجموعة "قالت لي السمراء" في عام 1944 عن دار الأحد بدمشق ضجّة كبيرة، فقد انتقل الشعر فجاءة من الفضاء المغلق إلى فضاء مفتوح, وكانت هذه المجموعة بداية لتحولات خطيرة في الشعر العربي في سورية, وخصوصاً فيما يتصل بالتعبير عن إحساسات الأنثى مباشرة، أو إقامة علاقات جديدة بين الأنثى ومحيطها, أو اقتحام المقدّس وهتك ما هو محرّم في وصف الجسد الأنثوي بدءاً من الشفتين إلى النهدين والحلمتين وتشجيع الأنثى على أن تعيش حياتها على هواها من دون رقيب أو محاسب, بل هو يدعوها صراحة في قصيدته "نهداك" من مجموعته "قالت لي السمراء" إلى أن تقتنص فرص الشباب قبل أن يفوت الأوان حيث ساعة لا ينفع الندم, ويدعوها متجاوزاً كلّ الأعراف والتقاليد إلى ارتكاب المعصية:
لا تفزعي.. فاللثْمُ للشعراءِ غيرُ مُحَرَّمِ
فُكِّيِ أسيريْ صَدْرِكِ الطفْلَيْن.. لا.. لا تظَلمي
نَهْدَاكِ ما خُلِقَا لِلَثْمِ الثَّوْبِ.. لكنْ للفمِ
مجنونةٌ مَنْ تحجبُ النهدينِ أو هي تحتمي
مجنونةٌ مَنْ مرَّ عَهْدُ شبابها لم تُلْثَمِ"(26)
لم يشتغل نزار قباني على القضايا الاجتماعية التي اشتغل عليها قاسم أمين و معروف الرصافي والزهاوي وغيرهم, كضرورة تعليم المرأة، وضرورة اختيارها لشريك العمر أو قضية عملها, أو طلاقها, وإنما انحاز إلى المدرسة اللبنانية في البحث عن مواطن الجمال في الأنثى، ونزار رسّام ماهر, وهو مغرم بالألوان والتفاصيل الحسّية، ولوحته متعدّدة الألوان وإن كانت تحمل وجهاً واحداً, فالصورة في شعره متنقلة، وإذا كان المشبه واحداً فإنَّ المشبّه به متعدّد, كما هي الحال في قصيدته "حلمة" من مجموعته الثانية "طفولة نهد" 1948, فهو لم يدع وجهاً من وجوه المشبه به في الطبيعة إلاَّ ذكره لبيان جماليات هذه الحلمة، وليست هذه الصور توضيحية، وإنّما هي صور جمالية لتقديم اللوحة على أفضل ما يجب أن تكون عليه:
تهزهزي وثُوري
يا خُصْلَةَ الحريرِ
يا مبسمَ العصفور يا
أرجوحةَ العبيرِ
يا حرفَ نارٍ سابحاً
في بِرْكَتَي عُطُورِ
يا كلِمْةً مهموسةً
مكتوبةً بنورِ
سمراءُ بل حمراءُ.. بل
لَوَّنَهَا شعوري
دُمَيْعَةٌ حافيةٌ
في ملعبٍ غميرِ
أم قُبْلَةٌ تجمَّدَتْ
في نْهدِكِ الصغير..إلخ(27)
ونزار قباني شاعر الممنوعات والمحرّم الجنسي, وقصيدته تقتحم التابو "Tabou" الاجتماعي والبلاغي بقوة، وقد سمح للأنثى أن تبوح بأسرارها ومشاعرها لأمّها, فإذا المحرّم في قصيدة "حكاية" مباح, وإذا السّر الدفين غناءٌ, وهذه هي المراهقة الدمشقية تروي حكايتها لأمها:
كنتُ أعدُو في غابة اللوزِ.. لمَّا
قالَ عنِّي, أُمَّاهُ, إنّي حُلْوَهْ
وعلى سالفي.. غفا زِرٌّ وَرْدٍ
وقميصي تَفَلَّتَتْ منه عُرْوَهْ
قالَ ما قالَ.. فالقميصُ جحيمٌ
فوق صدري, والثَّوْبُ يقطرُ نَشْوَهْ
قالَ لي: مبسمي وُرَيْقَةُ تُوتٍ
ولقد قالَ: إنَّ صَدْريَ ثَرْوَهْ
وَرَوَى لي عن ناهِدَيَّ حكايا
فهما جَدْولاَ نبيذٍ وَقَهْوَهْ
وهما دَوْرَقَا رحيقٍ ونُورٍ
وهما رَبْوَةٌ تُعانِقُ رَبْوَهْ
أَأَنَا حُلْوَةٌ؟.. وَأيْقَظَ أُنْثى
في عُرُوقي, وَشَقَّ للنُّورِ كُوَّهْ
إنَّ في صَوْتِهِ قَرَاراً رخيماً
وبأحْدَاقِهِ.. بريقُ النُّبُوَّهْ
جَبْهَةٌ حُرَّةٌ.. كما انْسَرَحَ النُّو
رُ وثَغْرٌ فيهِ اعتدادٌ وقَسْوَهْ
يَغْصِبُ الْقُبْلَةَ اغتصاباً
وجميلٌ أنْ يُؤْخَذَ الثَّغْرُ غُنْوَهْ
وَرَدَدْتُ الجفونَ عنه حَيَاءً
وَحَيَاءُ النِّسَاءِ للحُبِّ دَعْوَهْ
تستحي مُقلَتي.. ويَسْأَلُ طُهْري
عن شَذَاهُ.. كأنَّ للطُهْرِ شَهْوَهْ
أنتِ.. لن تُنْكِري عليَّ احتراقي
كُلُّنا في مجامرِ النَّار نِسْوَهْ(28)
ونتوقّف أخيراً في هذا المجال عند عمارة شعرية من أهمّ عمارات نزار قباني, وهي قصيدته "يوميات امرأة لا مبالية"، ويتألف هذا العمل من استهلال ورسالة ويوميات, ففي الاستهلال إشارة لعنوان العمل "يوميات امرأة لا مبالية" من جهة وتلخيص له من جهة أخرى، وهو يشكّل صوت نزار قباني وبيان هدفه من العمل, وهو أن تثور الأنثى على وضعها الحريمي في الشرق, لتخرج من الفضاء المغلق الذي وُضعت فيه عبر تاريخها الطويل إلى الفضاءات المفتوحة والمستقبل المنشود, وهذا لا يتمّ ولا يتحقّق إلا من خلال هذه الثورة:
ثُوري! أحبُّكِ أن تَثُوري..
ثوري على شرق السَّبَايا.. والتكايا.. والبَخُورِ
ثوري على التاريخ, وانتصري على الوهمِ الكبيرِ
لا ترهبي أحداً.. فإنَّ الشَّمْسَ مقبرةُ النسورِ
ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوق السَّريرِ
نزار (29)
يمثّل هذا الاستهلال صوت نزار ووجهة نظره, وهو مذيَّل باسمه الأول, وهذا يشير صراحة إلى أنَّ المرأة لا يمكن أن تنال حقوقها وهي صامتة، وعليها أن تُعلن ثورتها على النظام الأبوي البطريركي, ثم إنّ نزار يبيّن في هذا الاستهلال وقوفه إلى جانبها, كما يصف معاناتها القاسية في هذا الشرق الذي لا ينظر إليها إلاّ على أنها متعة الرجل فوق الفراش, ولذلك كان هذا الاستهلال يمثّل الاتصال والانفصال عن النص, فهو متصل به من حيث إنَّه الغاية من النص, وهو ثورة المرأة، ومنفصل عن النَّص لأن المتكلّم هنا من جنس الذكور، وإن كان يتعاطف مع حقوق المرأة ويدعو إلى تحريرها.
وتتألف بنية القصيدة من مقطعين: الأول بعنوان "رسالة إلى رجل ما" وهي رسالة مؤلفة من خمسة مقاطع يتناول فيها الشاعر على لسان هذه المرأة حالتها في الشرق الذي يحتقر الأنثى ويئدها, والرسالة بمجموع مقاطعها مقدمة عن حال المرأة ومعاناتها في شرقنا, ونقدّم صورة عن ذلك من خلال المقطع الثالث:
لا تنتقدْني سيّدي
إنْ كانَ خطّي سيّئاً...
فإنَّني أكتبُ والسَّيَّافُ خَلْفَ بابي
وخارجَ الحجرةِ صوتُ الرِّيحِ والكلابِ..
يا سيّدي!
عنترةُ العبسيُّ خَلْفَ بابي
يذبحُني..
إذا رأى خطابي..
يقطعُ رأسي..
لو أنا عبَّرْتُ عن عذابي...
فشرقُكُمْ يا سيّدي العزيزْ
يحاصرُ المرأة بالحرابِ..
وشرقُكُمْ, يا سيّدي العزيزْ
يُبايعُ الرجالَ أنبياءً
ويطمرُ النساءَ في الترابِ..(30)
أما المقطع الثاني فهو بعنوان "اليوميات"، وهو صُلب العمل, وفيه ستة وثلاثون مقطعاً على وزن (مفاعلتن) تروي من خلالها هذه المرأة حكايتها في الشرق وما تواجهه الأنثى في هذا المكان المغلق أو السجن الكبير الذي يسمونه الشرق, فالأنثى كائن غير مرغوب به سلفاً, وهو محكوم عليه بالإعدام منذ ولادته:
أنا أنثى..
أنا أنثى
نهارَ أتيتُ للدنيا
وجدْتُ قرارَ إعدامي
ولم أرَ بابَ محكمتي
ولم أرَ وجْهَ حكّامي(31)
والمشكلة التي تواجهها هذه الأنثى معقّدة وصعبة الحلّ, فكلّ من في المنزل الذي تحوّل إلى سجن يكرهها ويراقبها مراقبة شديدة، ولذلك هي في منزل الموتى كما تسميه في المقطع الرابع, ولكن المشكلة أبعد من ذلك, وهي تواجه جسدها الذي أخذ يثور عليها ثورة عارمة بعد أن تفتّحت مساماته, وكأنها ألسنة تصرخ في كلّ اتجاه تطلب الحرية:
لمنْ صدري أنا يكبرْ؟
لمنْ.. كَرَزَاتُهُ دارتْ؟
لمنْ.. تُفَّاحُهُ أَزْهرْ؟
لمنْ؟
صحنانِ صينيَّانِ.. من صدفٍ ومن جَوْهَرْ
لمنْ؟ قَدَحَانِ من ذهبٍ..
وليس هناكَ من يَسْكَرْ؟
لمنْ شَفَةٌ مناديةٌ
تجمَّدَ فوقَها السُّكَّرْ؟
أللشيطانِ.. للديدانِ.. للجدران لا تُقْهَرْ؟
أُربِّيها, وضوءَ الشَّمْس أسقيها
سنابلَ شعريَ الأشْقَرْ..(32)
وإذا كان لهذا الجسد سلطة تبحث عن الحرية فثمة سلطة أخرى تواجهها بالقيود والسلاسل, وهي السلطة الذكورية البطريركية المتمثلة في سلطة الأب المستبد, ولذلك ترفض هذه الأنثى أن تعيش في قفص, ولو كان من ذهب خالص:
كفرتُ أنا.. بمالِ أبي
بلؤلؤهِ.. بفضَّتِهِ..
أبي.. لم ينتبهْ يوماً
إلى جسدي.. وثورتِهِ
أبي رجلٌ أنانيٌّ
مريضٌ في محبَّتِهِ
مريضٌ في تعصُّبِهِ
مريضٌ في تَعنُّتِهِ..
يثورُ.. إذا رأى صدري
تمادى في استدارتِهِ
يثورُ.. إذا رأى رجلاً
يُقَرِّبُ من حديقتِهِ..
أبي لن يمنعَ التُّفَّاحَ عن إكمالِ دورتِهِ
سيأتي ألفُ عصفورٍ
ليسرقَ من حديقتِهِ..(33)
ولذلك توازن هذه المرأة حياتها بحياة القطّ الأسود في المقطع الثاني عشر، فإذا هو يعيش في المنزل حرّاً سيِّداً, وهي مسجونة في قمقم موصد, ثمّ تقيم موازنات أخرى، فإذا كلّ الأشياء حولها تعيش حرّة وطبيعية، ووحدها الأنثى في هذا السجن ـ الشرق غير مسموح لها بأن تُعَبّر عن ذاتها, والغريب العجيب أنّ الشرق يسمح للأخ الذكر أن يعود من الماخور سكرانَ عند الصباح من دون عيب في حين تُسجن الأنثى من دون أي سبب, وكأنّ الذكر من طينة مختلفة، ثم تتناول هذه الأنثى بعين انتقادية عيوب الشرق المجبول بالأخطاء والفواحش, فالشرق أرض الخرافات والجهل (المقطع 29), والرجل في الشرق بدءاً من الأب إلى الأخ إلى رجال القبيلة هو السَّيَّاق مسرور (المقطع 31)، والجنس في الشرق ناقص لأنّه مقتصر على متعة الرجل (المقطع 2), والدِّين يحرّف لمصلحة الرجل (المقطع 33), والعار الوحيد في الشرق هو الأنثى، ويقف هذا العار عند حدود الزنّار (المقطع 34)، والمشكلة التي يعانيها الشرقي الازدواجية في حياته, فهو يكره الأنثى ظاهرياً ويعبد جسدها في الخفاء, ولذلك لا حلّ لمشكلة هذه الأنثى إلاَّ الفرار من هذا الجحيم إلى وطن الحريات:
أريدُ البحثَ عن وطنٍ..
جديدٍ غير مسكونِ
وربِّ لا يُطاردني.
وأرضٍ لا تُعَاديني..
أريد أفرُّ من جِلْدِي..
ومن صوتي.. ومن لُغَتي
وأشردُ مثلَ رائحةِ البساتينِ
أريدُ أفرُّ من ظلّي
وأهربُ من عناويني..
أريدُ أفرُّ من شرقِ الخرافةِ والثعابينِ
منَ الخلفاءِ.. والأمراءِ..
من كلَّ السلاطينِ..
أريدُ أحبُّ.. مثلَ طيورِ تشرينِ..
أيا شرقَ المشانقِ والسكاكينِ..(34)
تجتاح هذه القصيدة عالم السرد واليوميات بمقاطع ذات شعرية عالية، وهي قصيدة طويلة تتجرأ على المسكوت عنه بخطاب أنثوي يواجه السلطة الذكورية الغاشمة، وتقدّم فضاءين مختلفين: فضاء تقليدياً, وهو صورة المرأة المتواكلة المستسلمة لمصيرها في هذا السجن الكبير الذي نسمّيه الشرق, وهي قابعة بانتظار فارس الأحلام الذي سيجيء على جواد أبيض لينتشلها مما هي يه, وهذا الفضاء مغلق, وهو فضاء الواقع والتقاليد والسلطة الذكورية، وثمة فضاء آخر تدعو إليه هذه الأنثى الرافضة لمصيرها المتروك لعوامل الزمن وأوراق الحظ، وهو الفضاء الاجتماعي المفتوح على الحريات, ولذلك عليها أن تثور على واقعها المرّ, وتحارب العادات والتقاليد والسلطة الذكورية التي تعلّبها وتجعل منها سلعة للبيع والشراء, وقد ترك نزار هذا الفضاء بلا تحديد, لأن تحديده يجعله مغلقاً, وكأنّه يريد من المتلقي أن يتصوّره وفق هواه.
ـ 4 ـ
الفضاء النّصّي (الثقافي) المفتوح:
ليست القصيدة النزارية جزيرة معزولة عن العالم, وإنما هي نصّ يتغذّى من النصوص العربية والعالمية، وهو فضاء مفتوح تناصيّاً على نصوص سبقته أو عاصرته, وليس المهم أن تكون درجات الإبداع واحدة بين النّص الأول والنّص الثاني, فقد أخذ نزار من سواه وأعطى فيما بعد لكثير من الشعراء الأعلام وسواهم, ولذلك سأقف هنا عند تجربتين شعريتين انفتح فيهما النّص النزاري على سواه: الأولى بين إلياس أبي شبكة ونزار والثانية بين جاك بريفير ونزار.
يصف أبو شبكة الرذيلة في عمله "أفاعي الفردوس" وصفاً أسطورياً ليتطهّر الإنسان منها على طريقة أرسطو في نظرية التطهير, وكأنّ في داخله كاهناً كبيراً وفارساً مدافعاً عن القيم والمعتقدات، ولذلك كان ممزّقاً بين الواقع والمثال، فالأنثى ـ عنده ـ مثال خالص وطهر رومانسي يجمع الجسد إلى الروح في بوتقة واحدة، فلما فاجأته أنثى ذات زوج وطفل برغبتها الجسدية العارمة استنكر ذلك منها, وصبَّ عليها جام غضبه مهتدياً بالشاعر الرومانسي الفرنسي ألفريد دي فيني في غضبته العارمة على جنس النساء في قصيدته "la colère de Samson" ليصرخ من أعماقه:
Et, Plus ou moins, la Femme est toujours Dalila(35).
صبّ إلياس أبو شكبة جام غضبه على الأنثى الخائنة في قصيدته "الأفعى" 1929, فقال:
وما زُغْتُ من وجٍ فَدَارَجْتُهُ
ولائي, وفي هذا الولا بُغْيَةٌ نُكْرا
فلمّا قَطَرْتُ الصِّدْقَ خُبْثاً بصدرِهِ
قَطَرْتُ لَهُ في نَسْلِهِ قطرةً أخرى
أقولُ لها: أعراقُ زوجِكِ لم تَزَلْ
وفي قلبِهِ عَطْفُ الأُبَوَّةِ لم يَبْرَ
ولمَ يَبْرَ إحساسُ الرجالِ بصدرِهِ
فَحُبُّكِ يجري منه في الجهةِ اليسرى
أقولُ لها: ثَوْبَ العفافِ تذكَّري
ففي ساعةِ الإكليلِ لم يَكُ مُغْبَرَّا
لبسْتِ رداءَ العرسِ أبيضَ ناصعاً
فمن أين جاءتْ هذه اللطخةُ الحمرا؟(36)
وأبو شبكة لا يحمّل هذه الأنثى وحدها تبعات ما قامت به من خيانة الزوج المخدوع الضحية، وإنّما هو يسخر من شريكها القاتل, وهو الرجل الثاني الزاني, فيخاطبه ويذكّره بطفولة بريئة عبثت بها السخافات:
سَتَمْلكُهَا ما شئتَ, بَعْدُ, فلا تَخَفْ
فإنَّ ابنَها لمّا يزلْ يَجهَلُ الأمرا
صغيرٌ, بريءُ العين, يرضى بلعبةٍ
فيرقد مغبوطاً بذي الهبةِ الكبرى
ينامُ, ولا يدري بأنَّ سخافةً
تلهَّى بها, كانت لموبقةٍ سِعْرَا(37)
يعود أبو شبكة إلى هذه الأنثى في قصيدته "في هيكل الشهوات" 1929, ليستنكر ما كان منها, ويوبّخها توبيخاً دينيّاً, وكأنّه يحكم عليها باللعنة الأبدية، فيقول:
وأنتِ, يا أمَّ طفلٍ في تلفُّتِهِ
سُؤْلُ العفافِ وفي أجفانِهِ لَعِبُ
صُبِّي الخمورَ فهذا العصرُ عصرُ طلاً
أما السُّكارى فهم أبناؤُهُ النُّجُبُ(...)
أما أنا, ولوِ اسْتَسْلَمْتُ أمسِ إلى
خمرِ الليالي, فقلبي ليسَ يَنْشَعِبُ
قد أشربُ الخمرَ لكنْ لا أُدَنِّسُهَا
وأقربُ الإثْمَ لكنْ لَسْتُ أرْتَكِبُ
وفي غدٍ إذ تُنِيرُ الطفلَ ميعَتُهُ
وتهرمينَ ويبقى ذلك الْخَشَبُ
قولي له: جئتَ في عصر الخمورِ فلا
تشربْ سوى الخمرِ واشحبْ مثلما شحبوا(..)
قولي لـه: عِفَّةُ الأجسادِ قد ذَهَبَتْ
معَ الجدودِ الأعفَّاءِ الأُلَى ذَهَبُوا(38)
لم يسلم نزار, وبخاصة في بداياته الشعرية، من هيمنة أبي شبكة عليه(39), وهو يستعيد في قصيدته "مدنّسة الحليب" في مجموعته "قالت لي السمراء" تجربة أبي شبكة في "أفاعي الفردوس", وقد بدا هذا التأثر واضحاً وهو يترسم خُطاهُ في صياغة قصيدة "شمشون" في الوزن (الخفيف) والأسلوب، فقال أبو شبكة في مطلع قصيدته:
ملِّقيهِ بحُسْنِكِ المأْجُورِ
وادْفَعيِهِ للانتقامِ الكبيرِ(40)
وقال نزار:
أطعميه... من ناهديكِ اطْعميهِ
واسْكبي أعكرَ الحليب بِنَيهِ(41)
وهو يستصرخ صور الخيانة على طريقة أبي شبكة، فيقول:
اِتَّقي الله.. في رخامٍ مُعَرَّى
خَشَبُ المهدِ كادَ أن يَشْتَهِيهِ
نَشِفَتْ فَوْرَةُ الحليب بِثَدْيَيْـ
ـكِ طعاماً لزائرٍ مَشْبُوهِ
زَوْجُكِ الطِّيبُ البسيطُ بعيدٌ
عنكِ, يا عِرْضَهُ وأمَّ بَنِيهِ
ساذجٌ, أبيضُ السَّريرةِ, أَعْطَا
كِ سوادَ العينينِ كي تشربيهِ
يَتْرُكُ الدَّارَ خاليَ الظَّنِّ... ماذا؟
أيشكُُّ الإنسانُ في أهْلِيهِ
أَوَآذَاكِ يا لئيمةُ... حتَّى
في قَدَاسَاتِ نَسْلِِ تُؤْذِيهِ(42)
ويستعيد نزار في الوقت نفسه صورة ذلك الطفل الذي تحدَّث عنه أبو شبكة:
والرَّضيعُ الزَّحَّافُ في الأرضِ يَسْعَى
كلُّ أمرٍ من حولِهِ لا يَعِيهِ
أمُّهُ في ذراعِ هذا المُسَجَّى
إنْ بكى الدَّهْرَ سوفَ لا تأتيهِ
أَاَبُوهُ هذا ويا رُبَّ مَوْلُو
دٍ أَبُوهُ الضجيعُ غيرُ أبيهِ(43)
هكذا استعاد نزار تجربة أبي شبكة بحرارة أقلّ, والنّصان يختلفان, فنصّ أبي شبكة أقرب إلى الهلع من الخطيئة المميتة التي كان أبو شبكة يخشاها, في حين كان نزار أقرب إلى العادات والتقاليد, وكان كلاسيكياً محافظاً في هذا النص, في حين كان أبو شبكة رومانسياً خالصاً.
والتجربة الثانية هي للشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900 ـ 1977م) في قصيدته الشهيرة "وجبة الصباح" "Dèjeuner du matin" المنشورة في مجموعة "كلمات" "Paroles" سنة 1948, تقصّ علينا امرأة جلست إلى جانب رجل في مطعم من دون أن يعيرها أيّ اهتمام في عالم غدا أقرب إلى الآلية في سلوكه ما شاهدته من تصرّفات الرجل الذي تقاسمت معه الطاولة:
وضعَ القهوةَ/ في الفنجان
وضع الحليب/ في فنجان القهوة
وضع السّكّر/ في القهوة بالحليب
حرّكها/ بالمعلقة الصغيرة
شرب القهوة بالحليب/ ووضع الفنجان
من دون أن يكلّمني
أشعل سيجارة/ نفث دوائر/ من دخانٍ
ألقى الرماد/ في المنفضة/ من دون أن يكلّمني
من دون أن ينظر إليّ
نهض/ وضع قبّعته على رأسه/ ارتدى معطف الشتاء
لأنَّ المطر كان يهطل/ وانصرف تحت زخّات المطر
من دون كلمة/ من دون أن ينظر إليّ
وأنا قد وضعتُ/ رأسي بين يديّ/ وبكيت
ُ(44)
وقد استعاد نزار قباني هذه التجربة في قصيدته "مع جريدة" في مجموعته الخامسة "قصائد" 1956, فقال على لسان امرأة:
أخرجَ من معطفه الجريدَة..
وعلبةَ الثقابِ
ودونَ أن يلاحظَ اضطرابي...
ودونما اهتمام
تناولَ السّكّرَ من أمامي...
ذوَّبَ في الفنجان قطعَتيْنْ
ذوَّبَني... ذوَّبَ قطعَتيْنْ
وبعدَ لحظتيْنْ
ودونَ أن يراني
ويعرفَ الشوقَ الذي اعتراني...
تناولَ المعطفَ من أمامي
وغابَ في الرخامِ
مخلِّفاً وراءَهُ الجريدَة
وحيدةً
مثلي أنا... وحيدَة(45)
هذه بعض تجلّيات الفضاء المفتوح في شعر نزار قباني: قصائد تخترقُ العاديَّ والمألوف مفرداتٍ ولغةً وصوراً, وتتجاوز الفضاءات الاجتماعية المغلقة بمقدّساتها وحرّاسها إلى فضاءات أكثر عدالة وتنوعاً, واجتياز المحرّمات والممنوعات والتجاسر على الأعراف والتقاليد لبناء عالم المساواة والعدل والحرية, عالم سليم معافى، واختراق الثقافة النصية الجامدة والبلاغة التقليدية إلى فضاء ثقافي عربي وغربي تتفاعل فيه النصوص الشعرية لتشكيل نصوص قادرة على أن تكون فاعلة في الحياة الجديدة وفضاءاتها المفتوحة على غير بُعد ومستوى واتجاه.
Admin- المدير
- عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 13/08/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 16, 2012 1:52 am من طرف Admin
» توبة التائبين
السبت يناير 28, 2012 1:28 am من طرف Admin
» الحماسة في الشعر العربي
السبت يناير 28, 2012 1:26 am من طرف Admin
» Windows Live Messenger 2012
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:29 am من طرف Admin
» الفيلم الدرامي الرائع هليوبوليس
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:14 am من طرف Admin
» ولاد البلد
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:09 am من طرف Admin
» دراسة في شعر الحماسة
الأحد نوفمبر 20, 2011 6:13 am من طرف Admin
» كلام من نور
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:28 am من طرف Admin
» يا رب استجب
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:25 am من طرف Admin