أوقات الصلاة
التقويم القمري
ساعة ماوس
اذاعة القران الكريم
أذكار الصباح والمساء
نزار قباني بين الحداثة والجاهلية
صفحة 1 من اصل 1
نزار قباني بين الحداثة والجاهلية
مما لا ريب فيه أن مفارقة لا لبس فيها تكتنف هذا العنوان من خلال جمعه الحداثة والجاهلية؛ ما يجعلنا في سياق يستدعي شيئاً من التوضيح؛ فمصطلح الحداثة ــ كما هو شائع ومعروف ــ يدلّ على الجدة التعبيرية التي لا تنوء بعبء الزمن، أي أن الحداثة ليست مرادفة للمعاصرة التي تعني الانتساب إلى عصر ما([1]).
أما الجاهلية في هذا العنوان، فالمقصود بها تلك السمات الحضارية أو التعبيرية التي تنتسب إلى النسق الجاهلي، مثال ذلك: النمط الهجائي الذي عرفه الثالوث الأموي: الفرزدق وجرير والأخطل، والذي يشكل بمعنى ما، رجع صدى للجاهلية شكلاً ومضموناً؛ أو كنمط أبي نؤاس الخمري في العصر العباسي الذي يتسم بملامح ذات بال من طقس الأعشى الأكبر الخمري، وإن تفرّدت خمرة أبي نؤاس بسياق رؤيوي فلسفي، لا قبل لخمرة الأعشى أن تتسم به، بسبب من تباين العوامل الحضارية المسهمة في نتاج كل من الشاعرين، وقس على ذلك.
وبعد، فقليلة هي الظواهر التي حملت حيّزاً من الكلام، شبيهاً بذلك الحيّز الذي احتلته ظاهرة الحداثة. وقليلون أيضاً، هم الذي استطاعوا تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من تلك الظاهرة. ولعل السمة الإنشائية الانفعالية، هي السمة الطاغية على جزء لا يُستهان به من خطاب الحداثة([2])؛ ما دعا بعضهم إلى القول إنه لم يجد في النص الإبداعي الحديث "مكونات أو مقدّمات، يمكن التعارف عليها، على أنها صيغة من صيغ الحداثة"([3]).
وتباينت التفسيرات والتعليلات في أمر النشوء؛ بيد أنها انضوت إلى رأي من اثنين:
أ ــ إن هذه الظاهرة، رجع صدى لما أنتجته قريحة الغرب الشعرية.
ب ــ إنها تأثرت بالتطور الشعري الغربي، لكن جذورها ضاربة في أعماق التراث([4]).
والرأي الأول، هو المهيمن على تصور الحداثة؛ أما الرأي الثاني ــ الأقل ذيوعاً من صاحبه، فيدثره جلباب من الغموض والإبهام.
واللافت عند العاملين جميعاً في مضمار الحداثة، إغفال الكلام على نتاجات "حديثة" في التراث العربي؛ والتركيز على أن محور الإبداع في هذه الحركة، كان الانتقال من "شكل إلى شكل"، أو بتعبير أدق من "سطح" إلى "سطح" من غير الكلام، ولو لماماً، على شيء من العمق؛ فنازك الملائكة ــ على سبيل المثال ــ تزعم إن إقامة القصيدة العربية، على التفعيلة، بدلاً من الشطر، كانت صادمة للجمهور، لأنها سألته أن يحدث تغييراً أساسياً في مفهوم الشعر عنده([5])، وتزعم نازك، أنها كانت السبّاقة، إلى مضمار الحداثة، من خلال قصيدتها "الكوليرا" التي نشرتها عام 1947، قبل أن ينشر بدر شاكر السياب في العام عينه قصيدته "هل كان حباً"؛ ومعياريتها في ذلك الأمر، إقامة التفعيلة، بدلاً من الشطر.
وإن قراءة موضوعية، لحركية الحداثة في التراث العربي، تلزمنا أن نقف متأملين صدمة الحداثة الأولى، التي ولّدها النص القرآني. ما دعا ابن خلدون، إلى القول بأن الكلام العربي نثر وشعر وقرآن([6])، وهي الفكرة عينها، التي وضّحها طه حسين، ونسبت خطأ إليه.
بعد تلك الصدمة، ثمة اتجاهان تعبيريان تجسدت فيهما الحداثة أيما تجسيد: النثر الصوفي، والبحور المهملة والفنون المستحدثة. فأما الاتجاه الأول، فحسبنا أن نشير إلى أحد تجلّياته، وهو "فصوص الحكم" لابن عربي، وأما الاتجاه الآخر، فهو متنوع الأشكال والسمات، ويقوم الشق الأول منه على أوزان استخرجت من دوائر الخليل، مثل بحر المستطيل، الذي هو عكس بحر الطويل، من حيث توالي تفعيلتي فعولن ومفاعيلن، ويقوم الشق الثاني من الاتجاه الثاني، على فنون استحدثت في العصر العباسي ومنها: الموشح ــ وهو نوعان، نوع يلتزم بحور الخليل وتفاعيله؛ ونوع يخرج على نظام الخليل ــ والدوبيت والكان وكان، والسلسلة([7])... إلخ.
وإن مقارنة عميقة بين هذه الأوزان المهملة والفنون المستحدثة، وحركة الحداثة الشعرية المعاصرة تفضي بنا إلى وجه شبه مزدوج، يجمع بينهما؛ فنقطة الانطلاق في التجربتين تفاعيل الخليل، مع تغيير في نظام اتساق هذه التفاعيل، والتجربتان قد أثبتتا أن الشعر، يمكن أن يحيا خارج أوزان الخليل والأخفش، شريطة ألا ينأى عنه الإيقاع والموسيقى.
وبعد، أين نزار من الحداثة الشعرية؟
بداءة، وقبل الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي لنا الإشارة إلى أن لنزار أوجهاً أربعة، تتكامل فيما بينها، لتكتمل صورة التجربة النزارية، والأوجه هي:
نزار الشاعر، نزار الناثر، نزار الناقد، نزار الناشر.
ونزار الناقد، هو الذي عليه أن يؤدي دور الدليل الرائد، الذي يوجه حركية الحداثة لدى نزار الشاعر والناثر؛ بيد أن شيئاً من المفارقة يتبدى في رصد تلك الحركية، وصلتها بذاك الدليل الرائد.
فالذي يجمع أشتات أقوال نزار النقدية في مسألة الحداثة الشعرية، يصل إلى استنتاج لا مراء فيه. أن تلك المسألة لم تكن مشروعاً بيّن الملامح والسمات، يرتكز على معيارية تقويمية واضحة المعالم؛ بل كانت مشروعاً مزيجاً من القلق والانفعال ورد الفعل؛ أي لم يكن التناغم قائماً، كما يجب، وبشكل مستمر، بين النظر النقدي، والتطبيق الإبداعي، الشعري منه على وجه الخصوص.
بيد أن ذلك المشروع المزيج، كان يتسم بحدة في الموقف، لا تعرف المساومة أو المراوغة؛ ناهيك من الوضوح في وصف الأشياء، وتحديد محاسنها ومثالبها، على حد سواء.
يقول نزار: "الخطر الكبير الذي يهدد القصيدة الحديثة، هو العشوائية والمجانية وعدم التخطيط. إن الحداثة صارت مثل سفينة نوح.. من كثرة تشابه الأجناس.. وتداخل الأصوات.. إنني أقرأ كل ما يقع في يدي من شعر حديث. ولكن لم تتشكل عندي القناعة الكافية، بأن هذا الشعر، هو الشعر المطلوب لتأسيس المستقبل العربي.
إن شعراء الحداثة، أرادوا أن يخلصوا الشعر، من التناظر والتكرار ولعبة الخطوط المتوازنة، فوقعوا في ذات المأزق. إنهم يتشابهون أسلوباً ولغة وأداء. كما يتشابه عشرون توأماً... فإذا قرأت لواحد منهم، أغنتك قراءتك له، عن قراءة الباقين"([8]).
ويقول أيضاً: "الخطر الأكبر الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أن تقطع جذورها نهائياً، مع الأصول الشعرية العربية، وتصبح طفلاً بلا نسب"([9]).
ويقول كذلك: "التجديد ليس انقلاباً عسكرياً، يلغي كل ما سبقه بمرسوم، فالشعر، هو نهر عظيم، يتدفق من الأزل إلى الأبد، ويتصل مصبه بمنبعه، وليس في العالم نهر له مصب، وليس له منبع. والخطر الثاني، الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أنها قطعت جذورها مع الجمهور العربي، واختارت المنفى"([10]).
وفي السياق عينه، يلتفت نزار الناقد إلى ضرورة التمييز بين العروض والإيقاع؛ فيقول: "الموسيقى ليست التفعيلة... تأليف الكلمات هو المهم"([11]).
ثم يبيّن ركائز الحداثة الثلاث: اللغة، وطريقة العرض، والخصوصية([12]).
وفي ما يشبه لوناً من ألوان التضاد؛ نجد أن نزاراً يورد أقوالاً تكاد تتضاد مع تلك التي سلفت. وأول الغيث، في هذا المجال، إصداره مرسوماً، بأن "عصر الطرب الطولاني قد انتهى، وأمسى الشعر العربي بحاجة ماسة إلى شد الحزام على أوتاره الصوتية"([13]).
وفي السياق الثاني نفسه، يزعم نزار أن القصيدة الكلاسيكية العمودية تمثّل جمال الذعر، وعلى الشاعر العربي الحديث، أن يخلّص الأمّة من ذلك الكابوس، مفسحاً في المجال للقصيدة النثرية، أن تكون البديل([14]).
كما يرد في السياق عينه، اعتبار نزار بحور الخليل بحور مناسبات، لا بحور شعر([15]).
إن قراءة موضوعية، لآراء نزار النقدية، تفضي إلى استنتاج، مؤداه أن هذه الآراء لا تستند جميعاً، إلى معيارية موضوعية، يصح القياس بها وعليها، وأن سمة الإطلاق والتعميم قد تركت بصماتها جلية عليها؛ حتى لتبدو كأنها صرخة تذمُّر وتأفف واستياء.
ولا تشكل هذه الآراء، بنية متناسقة العناصر، يؤدي تفاعلها إلى وظيفة محددة الأهداف والغايات، بل يغلب عليها طقس رؤيوي، أقرب ما يكون إلى التأملات التي يفصل بين الواحدة منها والأخرى، فاصلاً من الزمن والرؤيا، حتى إن بعضها قد يوحي أنه يتضاد مع بعضها الآخر، مثال ذلك الحديث عن ركائز الحداثة ــ وهو رأي نقرّه وندعو إليه ــ ثم إرفاق الكلام، بالدعوة إلى اقتفاء أثر الغرب في نمطية النظم الشعري القائمة على مفهومي الخطوة الموسيقية Le pas والمقطع Le syllable.
ثم إن الخصوصية التي يعتبرها نزار ــ بحق ــ ركيزة رئيسة من ركائز الحداثة، لا توافق الدعوة إلى شد الشعر العربي الحزام على أوتاره الصوتية. فإن أغنى ما في خصوصية ذلك الشعر، إنما هي تلك الغنائية، التي أفاد منها نزار، في كثير من تجلياته الشعرية المبدعة.
وبعد تعريجنا المقتضب على نزار الناقد، سنحاول تلمُّس وجه نزار الشاعر، في ضوء معاييره النقدية عينها؛ مؤكدين أن هذا الوجه، هو حجر الرحى في الشخصية النزارية. وفي مستهل هذا التلمس، نشهد لنزار بأنه استطاع اختراق حجب الزمان، واستحضر دهشة الشعر الغابرة، في ألق لا يجارى. فأزمة تباين الظروف الحضارية لم تلق بأثقالها فوق تجربته الشعرية؛ وعصبية القبيلة القديمة، إزاء الشعر، أصبحت مع نزار نسيجاً من الإقبال على قراءة الشعر والاهتمام به، لا عهد لشعراء الحداثة بمثله.
فاللغة الثالثة التي تحدث عنها نزار قد جسدها أيما تجسيد في أكثر شعره. فأصبحت القصيدة بين يديه الأنثى المغناج، وأضحت الأنثى بحراً من بحور الشعر، على وقع إيقاعه تنتظم الكلمات([16]) فإذا بالمعجمية الصارمة تنأى، وإذا بالإسفاف اللغوي يغور، ليفسحا في المجال للبساطة أن تصبح نسقاً إبداعياً على نحو ما، وللحديث اليومي أن يصبح معجماً شعرياً؛ ردّاً على عدوانية بعض شعراء الحداثة، الذين يتوهمون أنهم باستعلائهم على القراء، يحققون مجدهم، فيندحرون، وهم واهمون أنهم يصعدون([17]).
ولعل نمطية الإسناد في النسق الشعري النزاري، هي مزيّة، ميّزت هذه التجربة بفرادة، تذكرنا بقول توفيق يوسف عواد: "معجزة الكاتب الكاتب، أو الشاعر الشاعر، أن الكلمة تحت قلمه ــ على تقادمها وتكرارها ــ تعود بكرّا"([18]). كما تذكرنا بقول عز الدين إسماعيل، عن أنّ الإبداع في اللغة الشعرية، أن تكون لغة الناس، وألاّ تكونها في آن([19]).
واللافت أن الشعبوية التي وسمت ظاهرة الحداثة عند نزار، لم تحل دون أناقة في الديباجة، مسرفة بعض الشيء أحياناً؛ ما يجعلنا نقول إنه قد جمع النفعية إلى نمط من الجمالية في شعره.
ومن المعايير النقدية التي لم تستقم مع التجربة الشعرية، قول نزار عن بحور الخليل إنها بحور مناسبات؛ ما يجعل معظم شعره شعر مناسبات؛ وهو أمر ليس دقيقاً، ناهيك من أنه يجافي منطق الإبداع، الذي لا يستطيع شكل، مهما استبد، أن يهيمن عليه.
ثم إن قول نزار، في معرض نقد التراث وتوهّم الإتيان بجدة، "الموسيقى ليست التفعيلة... وإن تأليف الكلمات هو المهم" ليس جديداً على التراث، نظراً وتطبيقاً. فها هو عبد القادر الجرجاني، على سبيل المثال لا الحصر، قد دعا منذ القرن الخامس الهجري إلى أن المزّية "ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك"([20]) كما نفى تأثير الوزن في جودة الشعر، لأنه "ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء"([21]).
وإن الشاهد التطبيقي على مقولة الجرجاني، قد تجلت بشكل سافر، في الفنون الشعرية المستحدثة والبحور المهملة، ناهيك من تجارب النثر الصوفي، وفي صداراتها تجربتان: "فصوص الحكم" لابن عربي، و "مواقف" للنفري. وإن جزءاً لا يُستهان به من حميميّة الإيقاع الداخلي، في شعر نزار، قد نهل من هذا المعين الثر. وإن كثيراً من الاحتراق في هسهسات الوجد النزارية، تجعلنا نرى بأم العين فراشات مولانا جلال الدين، قد تدثرت صحو الكلام سباتاً عميقاً. لذلك، نرى أن من باب الجحود إيعاز التحديث الأسلوبي في هذه التجربة، إلى عوامل، ليس في صداراتها حركية الحداثة التراثية.
أما التكرار الذي حذّر منه نزار، فقد وقع فيه تكراراً؛ حتى أصبح كثير من النصوص، عوداً على بدء، ورجع صدًى لرجع صدًى، لصوت صدر عن نزار منذ زمن.
وبغية توضيح المشهد، لا بد لنا من سرد تاريخي سريع، لأهم المحطات الإبداعية في تجربة نزار الشعرية.
ففاتحة الهطول، كان ديوان "قالت لي السمراء" عام 1944م، وفيه التكوّن الأصلي، وشبه النهائي، للنسق الشعري النزاري.
هذا الديوان، أحدث صدمة، لم يحدثها سواه من دواوين الشاعر، في كل ما كتب. ولعل تلك الصدمة ناجمة في قسطها الوافر، عن اختراق المحرم Le Tabou . واللافت أن تساوق هذا الاختراق، مع الخطاب الشعري المباشر الذي تدثر بشيء من الفسيفساء التصويرية، قد ولد نمطاً من الشعرية المزركشة، التي أسبغت على المضامين طابع الدهشة، بعد أن اعتنت بتجميل الإطار؛ ما أوحى بجدة أسلوبية مميزة.
ثم أصدر الشاعر بعد ذلك بأربع سنوات، ديوانه الثاني "طفولة نهد"، الذي كان استمراراً للنهج الأسلوبي عينه، للديوان الأول؛ مع شيء من الرّقة والسلاسة والجرأة.
والديوان الثالث، كان "قصيدة سامبا" وفيه محاولة للتنويع الإيقاعي، من خلال النظام الخليلي. أما الديوان الرابع، فكان "أنت لي" وفيه رجوع واضح إلى ديوانه الأول "قالت لي السمراء". بعد ذلك بست سنوات، أصدر الشاعر ديوانه "قصائد" وفيه مزج أسلوبي لــ "قالت لي السمراء" و "قصيدة سامبا".
بعد ذلك بخمس سنوات أصدر ديوانه حبيبتي، وفيه استمرار للخط النزاري السابق، مع تنويعات طفيفة، لا تنبئ بتغيير ملحوظ.
بعد ذلك أيضاً، بست سنوات، أصدر نزار ديوانه "الرسم بالكلمات" وفيه ألق أسلوبي مميز، يجمع بين "طفولة نهد" و"قصيدة سامبا" ويضيف إليهما مسحة من التلوين التصويري والإيقاعي؛ ما جعل هذا الديوان تمهيداً لمرحلة ثانية في مسيرة الشاعر. ولا بأس من إيراد هذا النموذج الشاهد:
تعوّد شعري الطويل عليك
سنابلَ قمح على راحتيكْ
تعودت أرخيه كل مساءٍ
كنجمة صيف على كتفيكْ
فكيف تملُّ صداقة شعري
وشعري ترعرع بين يديكْ"([22])
بيد أن ذلك التمهيد، لم تكتمل صيرورته؛ فقد أصدر الشاعر ديوانه "يوميات امرأة لا مبالية" وفيه رتابة، ونثرية صلدة لم يسعفها الوزن. تلا ذلك صدور ديوان "قصائد متوحشة" عام 1970؛ وعنوان الديوان يناسب المقام أيما تناسب؛ فقصائده ظلت عصيّة، وحداثتها لم يتسنّ لها أن تصبح أليفة، وغلب عليها النثر. وفي العام عينه، عام 1970م، أصدر الشاعر ديوانه "كتاب الحب" و"أحلى قصائدي". فأما الأول، فكان تسطحاً وتكراراً؛ وأما الثاني، فكان مزيجاً منتقى لغرض تجاري.
وبعد سنة أصدر الشاعر ديوانه "لا" الذي يتسم بصخب التمرد ينزع نحو إرهاصات لحداثة تعبيرية، لم تصل إلى مبتغاها.
بعد هذا "الفيض"، توقف الشاعر سنة، عن متابعة النشر؛ ليصدر عام 1972م ديوانه "أشعار خارجة عن القانون" الذي يعتبر بحق تأسيساً ثانياً، لتجربة نزار الشعرية. ففي قصائد هذا الديوان، طموح حقيقي إلى حداثة لم تصل إلى مبتغاها قبل ذلك الحين؛ والحداثة تلك تجسدت ببساطة التركيب، وتآلف المتضادات من غير تنافر، مزدانين برشاقة العبارة من غير تصنع، وبجمال اللفظ وأنسه، من غير معجمية ولا إسفاف، ولعل بعض الشواهد الشعرية تثبت ما أشرنا إليه:
"عصفورة قلبي، نيساني
يا رمل البحر، ويا غابات الزيتونِ
يا طعم الثلج، وطعم النارِ
ونكهة كفري ويقيني"([23])
فأنا من بدء التكوينِ
أبحث عن وطن لجبيني
عن شعر امرأة يكتبني
فوق الجدران ويمحوني
عن حب امرأة يأخذني
لحدود الشمس ويرميني
عن شفة امرأة تجعلني
كغبار الذهب المطحون([24])
يدهشني حبك مثل حصان قوقازي محبوبِ
يرميني تحت حوافره
يتغرغر في ماء عيونِ
من أجلك أعتقت نسائي
وشطبت شهادة ميلادي
وقطعت جميع شراييني"([25])
وبعد ذلك، بست سنوات، أصدر الشاعر عام 1978 ديوانه "أحبك أحبك والبقية تأتي"، وفيه استمرار لنهج حداثة الديوان السابق، في دثار من الغنائية التي يخفت فيها صوت الضوضاء، لينغرز في أحشاء الكلام، إيقاعاً داخلياً، يتسجيب لنداءات الخارج. واللافت في هذا الديوان، ذلك الانسياب الذي يقترب بتلقائية الشعر من انبجاس النثر المرسل. ويتسم هذا الديوان، بملمح حزن لا سبيل إلى إخفائه.
وقد توهج هذا الحزن في بوتقة تعبيرية، هي من أصفى تجليات نزار الإبداعية في قصيدة "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" وهي مرثاة لفلذة كبده الذي قضى في ريعان شبابه.
وفي العام عينه، عام 1978، أصدر نزار ديوانه "إلى بيروت الأنثى مع حبي.." وفيه ارتكاس لا يبرر، وتسطح ومباشرة لا يسوغان.
وفي العام نفسه، نشر الشاعر ديوانه "كل عام وأنت حبيبتي" فجنح بالشعر إلى النثر، وبقي هناك.
وبعد عام من جنون النشر هذا، أصدر نزار ديوانه "أشهد أن لا امرأة إلا أنت" خارجاً به من رتابة العام الماضي وتكراره. في سياق شعري يحمل بعض سمات الجدة.
وبعد ذلك بعامين، أصدر الشاعر دفعة واحدة ديوانيه: "هكذا أكتب تاريخ النساء" و "قاموس العاشقين"؛ ليكرر في الديوان الأول، وبخطاب مباشر، كثيراً من أفكاره "التحررية الأنثوية". وأما الديوان الثاني، فقد اتسم بمفارقة الرجوع إلى الصرامة الكلاسيكية، فضلاً عن العفوية والانبجاس والسلاسة، المزدانة بإسقاطات صوفية.
وفي عام 1982، أصدر نزار "قصيدة بلقيس" يرثي فيها زوجته. والغالب على هذه القصيدة، النمط النثري، بيد أن الحزن العميق، والوجد الشفيف وبعض الرمز المستتر، أسعفت هذه القصيدة، فدخلت نادي الشعر. وبعد استراحة ثلاث سنوات، أصدر الشاعر ديوانه: "الحب لا يقف على الضوء الأحمر" محاولاً الإفادة من سلطة القافية على الكلام، لكنما طغيان النثر، أضعف تلك السلطة.
وبعد عام واحد أصدر ديوانه "قصائد مغضوب عليها" الذي يتسم باستثمار الرفض والتمرد في سياق الحداثة، من غير الوصول إلى جدة تعبيرية محضة.
وبعد عام آخر، أصدر الشاعر ديوانه "وسيقى الحب سيدي" وفيه تكرار لمنهج نزار القائم على اختراق المحرَّم Le tabou؛ بيد أن فيه نسقاً جديداً من الصور، والأنماط الإسنادية، يقوم في مجمله على المباغتة والإدهاش.
وفي العام التالي، أصدر الشاعر ديوانه: "الأوراق السرية لعاشق قرمطي"، وفيه توهّج للنسق الجديد، الذي وجدناه في الديوان السابق، حيث البساطة والسلاسة تضفيان على الحديث اليومي كيمياء الشعر، فيصبح شعراً.
وبعد ثلاثة أعوام، أي في عام 1991، أصدر نزار ديوانه "هل تسمعين صهيل أحزاني"، وفيه متابعة لاكتمال النسق المتوهج عينه الذي اتسمت به الدواوين الثلاثة السابقة، ناهيك من رجوع إلى البدايات، حيث الفطرة الشعرية، كانت أقرب إلى الفيض، منها إلى الصنعة.
بعد ذلك بعام واحد، أصدر الشاعر ديوانه: "لا غالب إلا الحب" وفيه اكتمال للنسق المتوهج الذي عرفناه في الديوان السابق.
وبعد عامين، يفاجئ الشاعر جمهوره بــ "قصيدة مايا" تلك القصيدة التي أجمع أكثر متذوقي شعر نزار، على أنها لا تليق به. فهي من حيث "المضمون النزاري" لا تختلف البتة عن أكثر أشعاره "التحررية الأنثوية"؛ بيد أنها صلدة، يابسة، منبرية.
وانتظرت قريحة الشاعر سنة، لتخرج من هذا المأزق، مع ديوانه "خمسون عاماً في مديح النساء" حيث الفتنة الأسلوبية الأخاذة.
وفي عام 1995 أصدر نزار آخر دواوينه غير السياسية، وهو ديوان: "أنا رجل واحد، وأنت قبيلة من النساء" لكن بساطته الأسلوبية، لم تحل دون هيمنة الكثافة النثرية على أكثر أجزاء الديوان.
وأما أعمال نزار الشعرية السياسية، فهي بمجملها تتسم بمباشرة، قد تكون مسرفة بعض الشيء أحياناً؛ خلا استثناءات لمّاحة. ولعل السخرية كانت عاملاً تحديثياً رئيساً في هذه الأعمال، خصوصاً ما ورد منها في "خبز وحشيش وقمر"، و "يوميات امرأة لا مبالية" و "هوامش على دفتر النكسة".. مع الإشارة إلى أن تلك السخرية قد تدثرت بنكوص بيّن، ولّد ظاهرة انشطار في شخصية الشاعر لدى مقاومته القلق الوجودي الذي يحيق بالأمّة، فضلاً عن تبخيس لتلك الشخصية. فكانت سخرية المنهزم المبخّس([26])؛ وبعض هذه السخرية قد لوّنت الصورة الشعرية بشيء من الومض يضيء معارج الوجدان من خلال القمع المدفون فيه؛ أي من خلال اختراق ما يضارع المحرم Le tabou في السياق السياسي.
ولا بأس من إيراد بعض النماذج الدالة على هذا المنحى النزاري:
ــ "ليذكر الصغار
حكاية الأرض التي ضيّعها الكبار
والأمم المتحدة"([27])
ــ "نريد جيلاً غاضباً
نريد جيلاً يفتح الآفاقْ
وينكش التاريخ من جذوره
وينكش الفكر من الأعماقْ
نريد جيلاً قادماً مختلف الملامح
لا يغفر الأخطاء
لا يسامح، لا ينحني، لا يعرف النفاقْ
نريد جيلاً رائداً، عملاقْ"([28])
ــ "أتجوّل في الوطن العربي
وليس معي إلاّ دفترْ
يرسلني المخفر للمخفرْ
يرميني العسكر للعكسرْ
وأنا لا أحمل في جيبي إلاّ عصفورْ
لكنّ الضابط يوقفني ويريد جوازاً للعصفورْ
تحتاج الكلمة في وطني
لجواز مرور"([29])
"لم نفرّق بين شعب وشعب
كيف يرضى لون السماء انقساما"([30])
هذا عن الحداثة ومظاهرها عند نزار، أما الجاهلية في تجربة نزار فهي ذات بعدين: بعد ذاتي، وبعدٍ موضوعي.
والبعد الذاتي يجسّد النظرة النزارية إلى الجاهلية محمولاً تراثياً وقيمياً، من زاوية تبخيسية، من حيث كون الجاهلية "نكوصاً حديثاً" على المدنية والحضارة، كما يراهما نزار.
وأما البعد الموضوعي فيرينا التجربة النزارية مشدودة إلى الجاهلية، في سياق متوتر طرفاه: هروب واعٍ، وانجذاب غير واع.
فالهروب الواعي نمط عدائي يسوّغ قسطاً وافراً من كيانية الجدّة والحداثة في التجربة النزارية، القائمة في بعض أحوالها على منهجية الصَّدْم والمباغتة.
وأما الانجذاب غير الواعي فيتجلى في استلهام رموز جاهلية شتى، كأبي لهب وأبي جهل والأوثان... إلخ؛ فضلاً عن تمثّل بعض المضمون الإيديولوجي العَقدي الجاهلي، في سياق ينزع، في أحايين شتى، نحو التضاد، ويترجّح بين القبول والرفض؛ ناهيك من استعارة بعض الأدوات التعبيرية، بعد إلباسها ما يناسبها من ثياب العصر، كأن تصبح المرأة قطّة، بدلاً من أن تكون ناقة، أو كأن تصبح سيارة ابنه توفيق طللاً على نحو ما، وقس على ذلك.
والجاهلية في التجربة النزارية ولّدت ما يشبه طقساً ما، له ملامح، أبرزها:
أ ــ اختراق المحرم الجنسي Le tabou باستحضار المعجم الجاهلي في العلاقة بين الشاعر وعشيقاته، وترجمته إلى لغة عصرية. فالشعراء الجاهليون قد تفننوا في وصف المرأة نهداً وفماً وقداً وكفلاً([31]).. إلخ. ولم يتركوا جزءاً من جسدها بعيداً من معاينتهم.
ب ــ المباشرة في الخطاب الشعري المتساوقة مع اختراق المحرم الجنسي، ما ولد صدمة أوهمت القارئ بحداثة ما، هي في حقيقتها خروج على المألوف من الأفكار، وليست خروجاً حقيقياً على المألوف من الأساليب.
ج ــ البعد الجمالي المرتكز على النفع لا على التناسب أو الانجذاب العاطفي؛ ففي الجاهلية كان ثمة تناغم بهيّ بين مفهوم الجمال القائم على البدانة ومفهوم الإخصاب. وفي البعد النزاري ليست الجمالية إلاّ مرادفاً من مرادفات الإثارة الغريزية، هاجسها الأوحد الجنس دون سائر الهواجس.
د ــ التقنّع العاطفي وراء الشهوة الجسدية، وغياب الوشائج الوجدانية، والتعبير عنها بما يوهم أنها موجودة؛ كما نجد ذلك في "غراميات" الشعراء الجاهليين، حيث التضاد بين التجربة الشهوانية الخالصة في الأغلب الأعم من الحالات، والتعبير عنها المزدان بالصبوات الشفيفة.
هـ ــ النرجسية المسرفة([32]) التي قد تكون إسقاطاً لقمع جنسي، والتي قد تبحث عن لذتها في الإبداع الجنسي المسرف، فتلتبس بسادية إذا أسعفها الحظ ووجدت ضحية لها؛ وقد تتدثر تلك السادية بنزوة السطوة، من خلال الشعور بالقوة في السيطرة على الآخر.
و ــ الجماهيرية الشعرية، فمن المعروف أن حداثة نزار ليست حداثة النخبة القليلة، بل هي حداثة يصح أن توصف بالجماهيرية، من غير أن يحمل هذا الوصف في ثناياه تبخيساً ما؛ فهو مزيّة من مزايا التجربة النزارية؛ لم تعرفها الحداثة المعاصرة. وهذا الأمر يذكرنا بالعصبية الجاهلية في الشعر. حيث كانت القبيلة تقيم الأفراح إذا نبغ فيها شاعر([33])؛ وكان الشعر طقساً يكاد يكون لاهوتياً، ينظر إليه باحترام كما ينظر إلى نص مقدس([34])؛ بخلاف نظرة الجمهور التبخيسية إلى جزء لا يستهان به من الشعر الحديث. وهذه النظرة الدونية قد اختفت من السياق الشعري النزاري، وحلت محلها نظرة انبهار، قلّما عرفتها القصيدة العربية التي تخترق الأعراف الاجتماعية السائدة. فالجماهيرية كانت متساوقة في التراث العربي في مرحلة ما بعد الجاهلية، مع مراعاة النظير في النسق الاجتماعي برمّته.
بعد هذا العرض السريع، ينبغي لنا التوقف، بتؤدة، أمام استخلاص العبر والنتائج؛ فنقول إن نتائج عدة، يمكن استخلاصها، بوضوح وجلاء:
_ إن هذا الكم الهائل من الدواوين، قد افترس قسطاً ليس يسيراً، من موهبة قل نظيرها بين شعراء العرب المعاصرين. وكان بوسعها لو استطاعت التخلص من هاجس الرغيف والترف والشهوة، أن تؤسس لعصر جديد في الشعر العربي. والدليل على ذلك، أن هذه القريحة، كانت تجود بالجميل الآسر، حينما كانت تستجيب لبواعث الإبداع؛ وحينما كانت ترضخ لبواعث "الضغط"، فقد خابت وخيبت؛ وأكاد أقول إن نزاراً الناشر قد أساء إلى نزار المبدع، وسخّر قريحته في أحايين شتى، لغير ما وضعت له.
_ إن اللمحات الإبداعية المتنوعة، لظاهرة الحداثة الشعرية عند نزار، لم تكن متناغمة في أحوال كثيرة، مع كثير من الخواطر النقدية، خصوصاً تلك التي تدعو إلى الاستغراب، بعيداً من "تحجر التراث". وهذه المفارقة، تثبت أن نزاراً مسكون بالأصالة، على الرغم منه أحياناً. ولا يستطيع منها خروجاً، وحينما يتعمّد ذلك الخروج، فسرعان ما ينحسر القناع عنه، ويصاب بخيبة أمل شعرية.
واللافت، في هذا السياق المفارق، أن بعض الإيقاعات النزارية، التي قصدت إلى تجاوز زحافات الخليل وعلله قصداً، ونجحت أيما نجاح في المزاوجة بين إيقاع النفس وإيقاع اللفظ، قد اعتبرت في مقاييس بعض نقاد الحداثة خللاً عروضياً([35]). وهذاالخلل العروضي نفسه، يثبت مرة أخرى، أصالة نزار الذي يستطيع تجاوز التراث، من غير الحاجة إلى قيود، تجنّبه التعثر في سيره، أو اجتثاث جذوره، فهو مسكون دائماً بالشعر.
_ إن نزاراً موهم بالحداثة أكثر منه تحديثياً، ولعل ما يوهم الجدّة عنده عائد إلى المعاصرة وليس إلى الحداثة([36])، أي عائد إلى اختيار الموضوع وتوليف عناصره بما يتوافق ومزاج العصر، من خلال حشده متضادات تثير فضول القارئ ورغبته، وتستجيب لدواعي الكبت التاريخي الجنسي والاجتماعي والسياسي، فيصفق هذا القارئ لأنين وجعه، لا لانجذاباته أمام جمالات الشعر. وقد أصاب أحد الباحثين([37]) حينما أشار إلى أن نزاراً قد نجح أيما نجاح في جمعه خصيصتي شعر الغزل الكلاسيكي وشعر المجون في التراث العربي، من حيث بث الجرأة في حنايا الضرب الأول، وشيء من الحياة في تضاعيف النمط الثاني، حتى استوى له نمط جديد قائم على مفهوم الإثارة لا الجمال، متوسلاً الغريزة في تجلياتها كافة.
_ إن مفهوم الإثارة في النمط النزاري، يحاكي بمعنىً ما الرؤية السلعية بين القارئ ــ المستهلك، والشاعر ــ المنتج، والقصيدة ــ السلعة. ويصبح هذا الثالوث تحت هيمنة قانون العرض والطلب، الذي يسهم في الاستجابة لحاجات الغريزة، دونما التفات حقيقي إلى الرؤيا الجمالية التي لا تتوافق البتة مع هذا القانون.
_ إن الزعم أن نزاراً قد حرّر المرأة العربية، فيه شيء كثير من الظلم والافتئات. فجل ما فعله نزار أنّه استحضر المرأة الجاهلية من سبات التاريخ خلسة، وألبسها ثياباً حديثة، وأدخلها نوادي العصر. وإننا نلفت إلى أن ما ذهب إليه أحد الباحثين "من أن المرأة النمرة التي تلتهب شهوة وشبقاً، وتسعى إلى الشاعر غير مبالية بشيء، والتي تتكرر صورتها غير مرة، خاصة في دواوين الشاعر الأولى، هي أقرب أن تكون إلى المرأة التي طالما حلم بها منها إلى امرأة عرفها وعايشها؛ إذ غالباً ما يجسّد العمل الفني أحلام الفنان وتهويماته بدلاً من تجسيد واقع حياته"([38]) يحتاج إلى شيء من التوضيح والاستدراك؛ فهذه المرأة النزارية هي المرأة الجاهلية التي عرفتها الأمثال وقصصها، امرأة من لحم ودم؛ وحسبنا أن نشير إلى مثلين، تختزل قصة كل منهما كلاماً كثيراً في هذا السياق؛ وهما "قوِّري والْطُفِي"([39])، و "ما وراءك يا عصام"([40]).. ففي قصة المثل الأول، تقدُّ المرأة من شرج است زوجها قطعة لحم كرمى لعيون عشيقها؛ وتحتال لذلك بأن تعصب على مبال طفلها بقصبة تخفيها، لكي يعسر عليه البول، وتوهم زوجها بأن دواءه في قطعة اللحم تلك. فيرضخ لطلبها تحت ضغط صراخ الطفل واستغاثته، ومثل هذه القصص وأضرابها كثيرة في الجاهلية([41]).
وأما قصة المثل الثاني، ففيها وصف حسي تفصيلي لامرأة جاهلية، بلغت مضرب الأمثال في جمالها، ولم تغادر قصة المثل شيئاً من جسدها إلاّ وأمعنت فيه وصفاً دقيقاً. وإن إحالة سريعة إلى المتجرّدة زوج النعمان والمنخّل اليشكري والنابغة الذبياني تنبئنا بالخبر اليقين([42]).
وختاماً لتلمّس مظاهر الحداثة النزارية، نشير إلى نزار الناثر، بأنه الجميل دائماً، المنساب بلا قيد.
ولا نغالي إذا قلنا، إن الحداثة في تجربة نزار التعبيرية، هي في نثره، أقوى منها في شعره. فهو ينبجس في نثره المرسل، بلا خوف أو مراقبة، مرتكزاً في ذلك على نمط من التوليف، قوامه المزاوجة بين شوارد الكلمات التي ما إن تفجؤك حتى تطمئن إليها، وتعاتب نفسك على استغرابك لها.
أما الجاهلية في هذا العنوان، فالمقصود بها تلك السمات الحضارية أو التعبيرية التي تنتسب إلى النسق الجاهلي، مثال ذلك: النمط الهجائي الذي عرفه الثالوث الأموي: الفرزدق وجرير والأخطل، والذي يشكل بمعنى ما، رجع صدى للجاهلية شكلاً ومضموناً؛ أو كنمط أبي نؤاس الخمري في العصر العباسي الذي يتسم بملامح ذات بال من طقس الأعشى الأكبر الخمري، وإن تفرّدت خمرة أبي نؤاس بسياق رؤيوي فلسفي، لا قبل لخمرة الأعشى أن تتسم به، بسبب من تباين العوامل الحضارية المسهمة في نتاج كل من الشاعرين، وقس على ذلك.
وبعد، فقليلة هي الظواهر التي حملت حيّزاً من الكلام، شبيهاً بذلك الحيّز الذي احتلته ظاهرة الحداثة. وقليلون أيضاً، هم الذي استطاعوا تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من تلك الظاهرة. ولعل السمة الإنشائية الانفعالية، هي السمة الطاغية على جزء لا يُستهان به من خطاب الحداثة([2])؛ ما دعا بعضهم إلى القول إنه لم يجد في النص الإبداعي الحديث "مكونات أو مقدّمات، يمكن التعارف عليها، على أنها صيغة من صيغ الحداثة"([3]).
وتباينت التفسيرات والتعليلات في أمر النشوء؛ بيد أنها انضوت إلى رأي من اثنين:
أ ــ إن هذه الظاهرة، رجع صدى لما أنتجته قريحة الغرب الشعرية.
ب ــ إنها تأثرت بالتطور الشعري الغربي، لكن جذورها ضاربة في أعماق التراث([4]).
والرأي الأول، هو المهيمن على تصور الحداثة؛ أما الرأي الثاني ــ الأقل ذيوعاً من صاحبه، فيدثره جلباب من الغموض والإبهام.
واللافت عند العاملين جميعاً في مضمار الحداثة، إغفال الكلام على نتاجات "حديثة" في التراث العربي؛ والتركيز على أن محور الإبداع في هذه الحركة، كان الانتقال من "شكل إلى شكل"، أو بتعبير أدق من "سطح" إلى "سطح" من غير الكلام، ولو لماماً، على شيء من العمق؛ فنازك الملائكة ــ على سبيل المثال ــ تزعم إن إقامة القصيدة العربية، على التفعيلة، بدلاً من الشطر، كانت صادمة للجمهور، لأنها سألته أن يحدث تغييراً أساسياً في مفهوم الشعر عنده([5])، وتزعم نازك، أنها كانت السبّاقة، إلى مضمار الحداثة، من خلال قصيدتها "الكوليرا" التي نشرتها عام 1947، قبل أن ينشر بدر شاكر السياب في العام عينه قصيدته "هل كان حباً"؛ ومعياريتها في ذلك الأمر، إقامة التفعيلة، بدلاً من الشطر.
وإن قراءة موضوعية، لحركية الحداثة في التراث العربي، تلزمنا أن نقف متأملين صدمة الحداثة الأولى، التي ولّدها النص القرآني. ما دعا ابن خلدون، إلى القول بأن الكلام العربي نثر وشعر وقرآن([6])، وهي الفكرة عينها، التي وضّحها طه حسين، ونسبت خطأ إليه.
بعد تلك الصدمة، ثمة اتجاهان تعبيريان تجسدت فيهما الحداثة أيما تجسيد: النثر الصوفي، والبحور المهملة والفنون المستحدثة. فأما الاتجاه الأول، فحسبنا أن نشير إلى أحد تجلّياته، وهو "فصوص الحكم" لابن عربي، وأما الاتجاه الآخر، فهو متنوع الأشكال والسمات، ويقوم الشق الأول منه على أوزان استخرجت من دوائر الخليل، مثل بحر المستطيل، الذي هو عكس بحر الطويل، من حيث توالي تفعيلتي فعولن ومفاعيلن، ويقوم الشق الثاني من الاتجاه الثاني، على فنون استحدثت في العصر العباسي ومنها: الموشح ــ وهو نوعان، نوع يلتزم بحور الخليل وتفاعيله؛ ونوع يخرج على نظام الخليل ــ والدوبيت والكان وكان، والسلسلة([7])... إلخ.
وإن مقارنة عميقة بين هذه الأوزان المهملة والفنون المستحدثة، وحركة الحداثة الشعرية المعاصرة تفضي بنا إلى وجه شبه مزدوج، يجمع بينهما؛ فنقطة الانطلاق في التجربتين تفاعيل الخليل، مع تغيير في نظام اتساق هذه التفاعيل، والتجربتان قد أثبتتا أن الشعر، يمكن أن يحيا خارج أوزان الخليل والأخفش، شريطة ألا ينأى عنه الإيقاع والموسيقى.
وبعد، أين نزار من الحداثة الشعرية؟
بداءة، وقبل الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي لنا الإشارة إلى أن لنزار أوجهاً أربعة، تتكامل فيما بينها، لتكتمل صورة التجربة النزارية، والأوجه هي:
نزار الشاعر، نزار الناثر، نزار الناقد، نزار الناشر.
ونزار الناقد، هو الذي عليه أن يؤدي دور الدليل الرائد، الذي يوجه حركية الحداثة لدى نزار الشاعر والناثر؛ بيد أن شيئاً من المفارقة يتبدى في رصد تلك الحركية، وصلتها بذاك الدليل الرائد.
فالذي يجمع أشتات أقوال نزار النقدية في مسألة الحداثة الشعرية، يصل إلى استنتاج لا مراء فيه. أن تلك المسألة لم تكن مشروعاً بيّن الملامح والسمات، يرتكز على معيارية تقويمية واضحة المعالم؛ بل كانت مشروعاً مزيجاً من القلق والانفعال ورد الفعل؛ أي لم يكن التناغم قائماً، كما يجب، وبشكل مستمر، بين النظر النقدي، والتطبيق الإبداعي، الشعري منه على وجه الخصوص.
بيد أن ذلك المشروع المزيج، كان يتسم بحدة في الموقف، لا تعرف المساومة أو المراوغة؛ ناهيك من الوضوح في وصف الأشياء، وتحديد محاسنها ومثالبها، على حد سواء.
يقول نزار: "الخطر الكبير الذي يهدد القصيدة الحديثة، هو العشوائية والمجانية وعدم التخطيط. إن الحداثة صارت مثل سفينة نوح.. من كثرة تشابه الأجناس.. وتداخل الأصوات.. إنني أقرأ كل ما يقع في يدي من شعر حديث. ولكن لم تتشكل عندي القناعة الكافية، بأن هذا الشعر، هو الشعر المطلوب لتأسيس المستقبل العربي.
إن شعراء الحداثة، أرادوا أن يخلصوا الشعر، من التناظر والتكرار ولعبة الخطوط المتوازنة، فوقعوا في ذات المأزق. إنهم يتشابهون أسلوباً ولغة وأداء. كما يتشابه عشرون توأماً... فإذا قرأت لواحد منهم، أغنتك قراءتك له، عن قراءة الباقين"([8]).
ويقول أيضاً: "الخطر الأكبر الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أن تقطع جذورها نهائياً، مع الأصول الشعرية العربية، وتصبح طفلاً بلا نسب"([9]).
ويقول كذلك: "التجديد ليس انقلاباً عسكرياً، يلغي كل ما سبقه بمرسوم، فالشعر، هو نهر عظيم، يتدفق من الأزل إلى الأبد، ويتصل مصبه بمنبعه، وليس في العالم نهر له مصب، وليس له منبع. والخطر الثاني، الذي يحيط بالقصيدة العربية، هو أنها قطعت جذورها مع الجمهور العربي، واختارت المنفى"([10]).
وفي السياق عينه، يلتفت نزار الناقد إلى ضرورة التمييز بين العروض والإيقاع؛ فيقول: "الموسيقى ليست التفعيلة... تأليف الكلمات هو المهم"([11]).
ثم يبيّن ركائز الحداثة الثلاث: اللغة، وطريقة العرض، والخصوصية([12]).
وفي ما يشبه لوناً من ألوان التضاد؛ نجد أن نزاراً يورد أقوالاً تكاد تتضاد مع تلك التي سلفت. وأول الغيث، في هذا المجال، إصداره مرسوماً، بأن "عصر الطرب الطولاني قد انتهى، وأمسى الشعر العربي بحاجة ماسة إلى شد الحزام على أوتاره الصوتية"([13]).
وفي السياق الثاني نفسه، يزعم نزار أن القصيدة الكلاسيكية العمودية تمثّل جمال الذعر، وعلى الشاعر العربي الحديث، أن يخلّص الأمّة من ذلك الكابوس، مفسحاً في المجال للقصيدة النثرية، أن تكون البديل([14]).
كما يرد في السياق عينه، اعتبار نزار بحور الخليل بحور مناسبات، لا بحور شعر([15]).
إن قراءة موضوعية، لآراء نزار النقدية، تفضي إلى استنتاج، مؤداه أن هذه الآراء لا تستند جميعاً، إلى معيارية موضوعية، يصح القياس بها وعليها، وأن سمة الإطلاق والتعميم قد تركت بصماتها جلية عليها؛ حتى لتبدو كأنها صرخة تذمُّر وتأفف واستياء.
ولا تشكل هذه الآراء، بنية متناسقة العناصر، يؤدي تفاعلها إلى وظيفة محددة الأهداف والغايات، بل يغلب عليها طقس رؤيوي، أقرب ما يكون إلى التأملات التي يفصل بين الواحدة منها والأخرى، فاصلاً من الزمن والرؤيا، حتى إن بعضها قد يوحي أنه يتضاد مع بعضها الآخر، مثال ذلك الحديث عن ركائز الحداثة ــ وهو رأي نقرّه وندعو إليه ــ ثم إرفاق الكلام، بالدعوة إلى اقتفاء أثر الغرب في نمطية النظم الشعري القائمة على مفهومي الخطوة الموسيقية Le pas والمقطع Le syllable.
ثم إن الخصوصية التي يعتبرها نزار ــ بحق ــ ركيزة رئيسة من ركائز الحداثة، لا توافق الدعوة إلى شد الشعر العربي الحزام على أوتاره الصوتية. فإن أغنى ما في خصوصية ذلك الشعر، إنما هي تلك الغنائية، التي أفاد منها نزار، في كثير من تجلياته الشعرية المبدعة.
وبعد تعريجنا المقتضب على نزار الناقد، سنحاول تلمُّس وجه نزار الشاعر، في ضوء معاييره النقدية عينها؛ مؤكدين أن هذا الوجه، هو حجر الرحى في الشخصية النزارية. وفي مستهل هذا التلمس، نشهد لنزار بأنه استطاع اختراق حجب الزمان، واستحضر دهشة الشعر الغابرة، في ألق لا يجارى. فأزمة تباين الظروف الحضارية لم تلق بأثقالها فوق تجربته الشعرية؛ وعصبية القبيلة القديمة، إزاء الشعر، أصبحت مع نزار نسيجاً من الإقبال على قراءة الشعر والاهتمام به، لا عهد لشعراء الحداثة بمثله.
فاللغة الثالثة التي تحدث عنها نزار قد جسدها أيما تجسيد في أكثر شعره. فأصبحت القصيدة بين يديه الأنثى المغناج، وأضحت الأنثى بحراً من بحور الشعر، على وقع إيقاعه تنتظم الكلمات([16]) فإذا بالمعجمية الصارمة تنأى، وإذا بالإسفاف اللغوي يغور، ليفسحا في المجال للبساطة أن تصبح نسقاً إبداعياً على نحو ما، وللحديث اليومي أن يصبح معجماً شعرياً؛ ردّاً على عدوانية بعض شعراء الحداثة، الذين يتوهمون أنهم باستعلائهم على القراء، يحققون مجدهم، فيندحرون، وهم واهمون أنهم يصعدون([17]).
ولعل نمطية الإسناد في النسق الشعري النزاري، هي مزيّة، ميّزت هذه التجربة بفرادة، تذكرنا بقول توفيق يوسف عواد: "معجزة الكاتب الكاتب، أو الشاعر الشاعر، أن الكلمة تحت قلمه ــ على تقادمها وتكرارها ــ تعود بكرّا"([18]). كما تذكرنا بقول عز الدين إسماعيل، عن أنّ الإبداع في اللغة الشعرية، أن تكون لغة الناس، وألاّ تكونها في آن([19]).
واللافت أن الشعبوية التي وسمت ظاهرة الحداثة عند نزار، لم تحل دون أناقة في الديباجة، مسرفة بعض الشيء أحياناً؛ ما يجعلنا نقول إنه قد جمع النفعية إلى نمط من الجمالية في شعره.
ومن المعايير النقدية التي لم تستقم مع التجربة الشعرية، قول نزار عن بحور الخليل إنها بحور مناسبات؛ ما يجعل معظم شعره شعر مناسبات؛ وهو أمر ليس دقيقاً، ناهيك من أنه يجافي منطق الإبداع، الذي لا يستطيع شكل، مهما استبد، أن يهيمن عليه.
ثم إن قول نزار، في معرض نقد التراث وتوهّم الإتيان بجدة، "الموسيقى ليست التفعيلة... وإن تأليف الكلمات هو المهم" ليس جديداً على التراث، نظراً وتطبيقاً. فها هو عبد القادر الجرجاني، على سبيل المثال لا الحصر، قد دعا منذ القرن الخامس الهجري إلى أن المزّية "ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك"([20]) كما نفى تأثير الوزن في جودة الشعر، لأنه "ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء"([21]).
وإن الشاهد التطبيقي على مقولة الجرجاني، قد تجلت بشكل سافر، في الفنون الشعرية المستحدثة والبحور المهملة، ناهيك من تجارب النثر الصوفي، وفي صداراتها تجربتان: "فصوص الحكم" لابن عربي، و "مواقف" للنفري. وإن جزءاً لا يُستهان به من حميميّة الإيقاع الداخلي، في شعر نزار، قد نهل من هذا المعين الثر. وإن كثيراً من الاحتراق في هسهسات الوجد النزارية، تجعلنا نرى بأم العين فراشات مولانا جلال الدين، قد تدثرت صحو الكلام سباتاً عميقاً. لذلك، نرى أن من باب الجحود إيعاز التحديث الأسلوبي في هذه التجربة، إلى عوامل، ليس في صداراتها حركية الحداثة التراثية.
أما التكرار الذي حذّر منه نزار، فقد وقع فيه تكراراً؛ حتى أصبح كثير من النصوص، عوداً على بدء، ورجع صدًى لرجع صدًى، لصوت صدر عن نزار منذ زمن.
وبغية توضيح المشهد، لا بد لنا من سرد تاريخي سريع، لأهم المحطات الإبداعية في تجربة نزار الشعرية.
ففاتحة الهطول، كان ديوان "قالت لي السمراء" عام 1944م، وفيه التكوّن الأصلي، وشبه النهائي، للنسق الشعري النزاري.
هذا الديوان، أحدث صدمة، لم يحدثها سواه من دواوين الشاعر، في كل ما كتب. ولعل تلك الصدمة ناجمة في قسطها الوافر، عن اختراق المحرم Le Tabou . واللافت أن تساوق هذا الاختراق، مع الخطاب الشعري المباشر الذي تدثر بشيء من الفسيفساء التصويرية، قد ولد نمطاً من الشعرية المزركشة، التي أسبغت على المضامين طابع الدهشة، بعد أن اعتنت بتجميل الإطار؛ ما أوحى بجدة أسلوبية مميزة.
ثم أصدر الشاعر بعد ذلك بأربع سنوات، ديوانه الثاني "طفولة نهد"، الذي كان استمراراً للنهج الأسلوبي عينه، للديوان الأول؛ مع شيء من الرّقة والسلاسة والجرأة.
والديوان الثالث، كان "قصيدة سامبا" وفيه محاولة للتنويع الإيقاعي، من خلال النظام الخليلي. أما الديوان الرابع، فكان "أنت لي" وفيه رجوع واضح إلى ديوانه الأول "قالت لي السمراء". بعد ذلك بست سنوات، أصدر الشاعر ديوانه "قصائد" وفيه مزج أسلوبي لــ "قالت لي السمراء" و "قصيدة سامبا".
بعد ذلك بخمس سنوات أصدر ديوانه حبيبتي، وفيه استمرار للخط النزاري السابق، مع تنويعات طفيفة، لا تنبئ بتغيير ملحوظ.
بعد ذلك أيضاً، بست سنوات، أصدر نزار ديوانه "الرسم بالكلمات" وفيه ألق أسلوبي مميز، يجمع بين "طفولة نهد" و"قصيدة سامبا" ويضيف إليهما مسحة من التلوين التصويري والإيقاعي؛ ما جعل هذا الديوان تمهيداً لمرحلة ثانية في مسيرة الشاعر. ولا بأس من إيراد هذا النموذج الشاهد:
تعوّد شعري الطويل عليك
سنابلَ قمح على راحتيكْ
تعودت أرخيه كل مساءٍ
كنجمة صيف على كتفيكْ
فكيف تملُّ صداقة شعري
وشعري ترعرع بين يديكْ"([22])
بيد أن ذلك التمهيد، لم تكتمل صيرورته؛ فقد أصدر الشاعر ديوانه "يوميات امرأة لا مبالية" وفيه رتابة، ونثرية صلدة لم يسعفها الوزن. تلا ذلك صدور ديوان "قصائد متوحشة" عام 1970؛ وعنوان الديوان يناسب المقام أيما تناسب؛ فقصائده ظلت عصيّة، وحداثتها لم يتسنّ لها أن تصبح أليفة، وغلب عليها النثر. وفي العام عينه، عام 1970م، أصدر الشاعر ديوانه "كتاب الحب" و"أحلى قصائدي". فأما الأول، فكان تسطحاً وتكراراً؛ وأما الثاني، فكان مزيجاً منتقى لغرض تجاري.
وبعد سنة أصدر الشاعر ديوانه "لا" الذي يتسم بصخب التمرد ينزع نحو إرهاصات لحداثة تعبيرية، لم تصل إلى مبتغاها.
بعد هذا "الفيض"، توقف الشاعر سنة، عن متابعة النشر؛ ليصدر عام 1972م ديوانه "أشعار خارجة عن القانون" الذي يعتبر بحق تأسيساً ثانياً، لتجربة نزار الشعرية. ففي قصائد هذا الديوان، طموح حقيقي إلى حداثة لم تصل إلى مبتغاها قبل ذلك الحين؛ والحداثة تلك تجسدت ببساطة التركيب، وتآلف المتضادات من غير تنافر، مزدانين برشاقة العبارة من غير تصنع، وبجمال اللفظ وأنسه، من غير معجمية ولا إسفاف، ولعل بعض الشواهد الشعرية تثبت ما أشرنا إليه:
"عصفورة قلبي، نيساني
يا رمل البحر، ويا غابات الزيتونِ
يا طعم الثلج، وطعم النارِ
ونكهة كفري ويقيني"([23])
فأنا من بدء التكوينِ
أبحث عن وطن لجبيني
عن شعر امرأة يكتبني
فوق الجدران ويمحوني
عن حب امرأة يأخذني
لحدود الشمس ويرميني
عن شفة امرأة تجعلني
كغبار الذهب المطحون([24])
يدهشني حبك مثل حصان قوقازي محبوبِ
يرميني تحت حوافره
يتغرغر في ماء عيونِ
من أجلك أعتقت نسائي
وشطبت شهادة ميلادي
وقطعت جميع شراييني"([25])
وبعد ذلك، بست سنوات، أصدر الشاعر عام 1978 ديوانه "أحبك أحبك والبقية تأتي"، وفيه استمرار لنهج حداثة الديوان السابق، في دثار من الغنائية التي يخفت فيها صوت الضوضاء، لينغرز في أحشاء الكلام، إيقاعاً داخلياً، يتسجيب لنداءات الخارج. واللافت في هذا الديوان، ذلك الانسياب الذي يقترب بتلقائية الشعر من انبجاس النثر المرسل. ويتسم هذا الديوان، بملمح حزن لا سبيل إلى إخفائه.
وقد توهج هذا الحزن في بوتقة تعبيرية، هي من أصفى تجليات نزار الإبداعية في قصيدة "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" وهي مرثاة لفلذة كبده الذي قضى في ريعان شبابه.
وفي العام عينه، عام 1978، أصدر نزار ديوانه "إلى بيروت الأنثى مع حبي.." وفيه ارتكاس لا يبرر، وتسطح ومباشرة لا يسوغان.
وفي العام نفسه، نشر الشاعر ديوانه "كل عام وأنت حبيبتي" فجنح بالشعر إلى النثر، وبقي هناك.
وبعد عام من جنون النشر هذا، أصدر نزار ديوانه "أشهد أن لا امرأة إلا أنت" خارجاً به من رتابة العام الماضي وتكراره. في سياق شعري يحمل بعض سمات الجدة.
وبعد ذلك بعامين، أصدر الشاعر دفعة واحدة ديوانيه: "هكذا أكتب تاريخ النساء" و "قاموس العاشقين"؛ ليكرر في الديوان الأول، وبخطاب مباشر، كثيراً من أفكاره "التحررية الأنثوية". وأما الديوان الثاني، فقد اتسم بمفارقة الرجوع إلى الصرامة الكلاسيكية، فضلاً عن العفوية والانبجاس والسلاسة، المزدانة بإسقاطات صوفية.
وفي عام 1982، أصدر نزار "قصيدة بلقيس" يرثي فيها زوجته. والغالب على هذه القصيدة، النمط النثري، بيد أن الحزن العميق، والوجد الشفيف وبعض الرمز المستتر، أسعفت هذه القصيدة، فدخلت نادي الشعر. وبعد استراحة ثلاث سنوات، أصدر الشاعر ديوانه: "الحب لا يقف على الضوء الأحمر" محاولاً الإفادة من سلطة القافية على الكلام، لكنما طغيان النثر، أضعف تلك السلطة.
وبعد عام واحد أصدر ديوانه "قصائد مغضوب عليها" الذي يتسم باستثمار الرفض والتمرد في سياق الحداثة، من غير الوصول إلى جدة تعبيرية محضة.
وبعد عام آخر، أصدر الشاعر ديوانه "وسيقى الحب سيدي" وفيه تكرار لمنهج نزار القائم على اختراق المحرَّم Le tabou؛ بيد أن فيه نسقاً جديداً من الصور، والأنماط الإسنادية، يقوم في مجمله على المباغتة والإدهاش.
وفي العام التالي، أصدر الشاعر ديوانه: "الأوراق السرية لعاشق قرمطي"، وفيه توهّج للنسق الجديد، الذي وجدناه في الديوان السابق، حيث البساطة والسلاسة تضفيان على الحديث اليومي كيمياء الشعر، فيصبح شعراً.
وبعد ثلاثة أعوام، أي في عام 1991، أصدر نزار ديوانه "هل تسمعين صهيل أحزاني"، وفيه متابعة لاكتمال النسق المتوهج عينه الذي اتسمت به الدواوين الثلاثة السابقة، ناهيك من رجوع إلى البدايات، حيث الفطرة الشعرية، كانت أقرب إلى الفيض، منها إلى الصنعة.
بعد ذلك بعام واحد، أصدر الشاعر ديوانه: "لا غالب إلا الحب" وفيه اكتمال للنسق المتوهج الذي عرفناه في الديوان السابق.
وبعد عامين، يفاجئ الشاعر جمهوره بــ "قصيدة مايا" تلك القصيدة التي أجمع أكثر متذوقي شعر نزار، على أنها لا تليق به. فهي من حيث "المضمون النزاري" لا تختلف البتة عن أكثر أشعاره "التحررية الأنثوية"؛ بيد أنها صلدة، يابسة، منبرية.
وانتظرت قريحة الشاعر سنة، لتخرج من هذا المأزق، مع ديوانه "خمسون عاماً في مديح النساء" حيث الفتنة الأسلوبية الأخاذة.
وفي عام 1995 أصدر نزار آخر دواوينه غير السياسية، وهو ديوان: "أنا رجل واحد، وأنت قبيلة من النساء" لكن بساطته الأسلوبية، لم تحل دون هيمنة الكثافة النثرية على أكثر أجزاء الديوان.
وأما أعمال نزار الشعرية السياسية، فهي بمجملها تتسم بمباشرة، قد تكون مسرفة بعض الشيء أحياناً؛ خلا استثناءات لمّاحة. ولعل السخرية كانت عاملاً تحديثياً رئيساً في هذه الأعمال، خصوصاً ما ورد منها في "خبز وحشيش وقمر"، و "يوميات امرأة لا مبالية" و "هوامش على دفتر النكسة".. مع الإشارة إلى أن تلك السخرية قد تدثرت بنكوص بيّن، ولّد ظاهرة انشطار في شخصية الشاعر لدى مقاومته القلق الوجودي الذي يحيق بالأمّة، فضلاً عن تبخيس لتلك الشخصية. فكانت سخرية المنهزم المبخّس([26])؛ وبعض هذه السخرية قد لوّنت الصورة الشعرية بشيء من الومض يضيء معارج الوجدان من خلال القمع المدفون فيه؛ أي من خلال اختراق ما يضارع المحرم Le tabou في السياق السياسي.
ولا بأس من إيراد بعض النماذج الدالة على هذا المنحى النزاري:
ــ "ليذكر الصغار
حكاية الأرض التي ضيّعها الكبار
والأمم المتحدة"([27])
ــ "نريد جيلاً غاضباً
نريد جيلاً يفتح الآفاقْ
وينكش التاريخ من جذوره
وينكش الفكر من الأعماقْ
نريد جيلاً قادماً مختلف الملامح
لا يغفر الأخطاء
لا يسامح، لا ينحني، لا يعرف النفاقْ
نريد جيلاً رائداً، عملاقْ"([28])
ــ "أتجوّل في الوطن العربي
وليس معي إلاّ دفترْ
يرسلني المخفر للمخفرْ
يرميني العسكر للعكسرْ
وأنا لا أحمل في جيبي إلاّ عصفورْ
لكنّ الضابط يوقفني ويريد جوازاً للعصفورْ
تحتاج الكلمة في وطني
لجواز مرور"([29])
"لم نفرّق بين شعب وشعب
كيف يرضى لون السماء انقساما"([30])
هذا عن الحداثة ومظاهرها عند نزار، أما الجاهلية في تجربة نزار فهي ذات بعدين: بعد ذاتي، وبعدٍ موضوعي.
والبعد الذاتي يجسّد النظرة النزارية إلى الجاهلية محمولاً تراثياً وقيمياً، من زاوية تبخيسية، من حيث كون الجاهلية "نكوصاً حديثاً" على المدنية والحضارة، كما يراهما نزار.
وأما البعد الموضوعي فيرينا التجربة النزارية مشدودة إلى الجاهلية، في سياق متوتر طرفاه: هروب واعٍ، وانجذاب غير واع.
فالهروب الواعي نمط عدائي يسوّغ قسطاً وافراً من كيانية الجدّة والحداثة في التجربة النزارية، القائمة في بعض أحوالها على منهجية الصَّدْم والمباغتة.
وأما الانجذاب غير الواعي فيتجلى في استلهام رموز جاهلية شتى، كأبي لهب وأبي جهل والأوثان... إلخ؛ فضلاً عن تمثّل بعض المضمون الإيديولوجي العَقدي الجاهلي، في سياق ينزع، في أحايين شتى، نحو التضاد، ويترجّح بين القبول والرفض؛ ناهيك من استعارة بعض الأدوات التعبيرية، بعد إلباسها ما يناسبها من ثياب العصر، كأن تصبح المرأة قطّة، بدلاً من أن تكون ناقة، أو كأن تصبح سيارة ابنه توفيق طللاً على نحو ما، وقس على ذلك.
والجاهلية في التجربة النزارية ولّدت ما يشبه طقساً ما، له ملامح، أبرزها:
أ ــ اختراق المحرم الجنسي Le tabou باستحضار المعجم الجاهلي في العلاقة بين الشاعر وعشيقاته، وترجمته إلى لغة عصرية. فالشعراء الجاهليون قد تفننوا في وصف المرأة نهداً وفماً وقداً وكفلاً([31]).. إلخ. ولم يتركوا جزءاً من جسدها بعيداً من معاينتهم.
ب ــ المباشرة في الخطاب الشعري المتساوقة مع اختراق المحرم الجنسي، ما ولد صدمة أوهمت القارئ بحداثة ما، هي في حقيقتها خروج على المألوف من الأفكار، وليست خروجاً حقيقياً على المألوف من الأساليب.
ج ــ البعد الجمالي المرتكز على النفع لا على التناسب أو الانجذاب العاطفي؛ ففي الجاهلية كان ثمة تناغم بهيّ بين مفهوم الجمال القائم على البدانة ومفهوم الإخصاب. وفي البعد النزاري ليست الجمالية إلاّ مرادفاً من مرادفات الإثارة الغريزية، هاجسها الأوحد الجنس دون سائر الهواجس.
د ــ التقنّع العاطفي وراء الشهوة الجسدية، وغياب الوشائج الوجدانية، والتعبير عنها بما يوهم أنها موجودة؛ كما نجد ذلك في "غراميات" الشعراء الجاهليين، حيث التضاد بين التجربة الشهوانية الخالصة في الأغلب الأعم من الحالات، والتعبير عنها المزدان بالصبوات الشفيفة.
هـ ــ النرجسية المسرفة([32]) التي قد تكون إسقاطاً لقمع جنسي، والتي قد تبحث عن لذتها في الإبداع الجنسي المسرف، فتلتبس بسادية إذا أسعفها الحظ ووجدت ضحية لها؛ وقد تتدثر تلك السادية بنزوة السطوة، من خلال الشعور بالقوة في السيطرة على الآخر.
و ــ الجماهيرية الشعرية، فمن المعروف أن حداثة نزار ليست حداثة النخبة القليلة، بل هي حداثة يصح أن توصف بالجماهيرية، من غير أن يحمل هذا الوصف في ثناياه تبخيساً ما؛ فهو مزيّة من مزايا التجربة النزارية؛ لم تعرفها الحداثة المعاصرة. وهذا الأمر يذكرنا بالعصبية الجاهلية في الشعر. حيث كانت القبيلة تقيم الأفراح إذا نبغ فيها شاعر([33])؛ وكان الشعر طقساً يكاد يكون لاهوتياً، ينظر إليه باحترام كما ينظر إلى نص مقدس([34])؛ بخلاف نظرة الجمهور التبخيسية إلى جزء لا يستهان به من الشعر الحديث. وهذه النظرة الدونية قد اختفت من السياق الشعري النزاري، وحلت محلها نظرة انبهار، قلّما عرفتها القصيدة العربية التي تخترق الأعراف الاجتماعية السائدة. فالجماهيرية كانت متساوقة في التراث العربي في مرحلة ما بعد الجاهلية، مع مراعاة النظير في النسق الاجتماعي برمّته.
بعد هذا العرض السريع، ينبغي لنا التوقف، بتؤدة، أمام استخلاص العبر والنتائج؛ فنقول إن نتائج عدة، يمكن استخلاصها، بوضوح وجلاء:
_ إن هذا الكم الهائل من الدواوين، قد افترس قسطاً ليس يسيراً، من موهبة قل نظيرها بين شعراء العرب المعاصرين. وكان بوسعها لو استطاعت التخلص من هاجس الرغيف والترف والشهوة، أن تؤسس لعصر جديد في الشعر العربي. والدليل على ذلك، أن هذه القريحة، كانت تجود بالجميل الآسر، حينما كانت تستجيب لبواعث الإبداع؛ وحينما كانت ترضخ لبواعث "الضغط"، فقد خابت وخيبت؛ وأكاد أقول إن نزاراً الناشر قد أساء إلى نزار المبدع، وسخّر قريحته في أحايين شتى، لغير ما وضعت له.
_ إن اللمحات الإبداعية المتنوعة، لظاهرة الحداثة الشعرية عند نزار، لم تكن متناغمة في أحوال كثيرة، مع كثير من الخواطر النقدية، خصوصاً تلك التي تدعو إلى الاستغراب، بعيداً من "تحجر التراث". وهذه المفارقة، تثبت أن نزاراً مسكون بالأصالة، على الرغم منه أحياناً. ولا يستطيع منها خروجاً، وحينما يتعمّد ذلك الخروج، فسرعان ما ينحسر القناع عنه، ويصاب بخيبة أمل شعرية.
واللافت، في هذا السياق المفارق، أن بعض الإيقاعات النزارية، التي قصدت إلى تجاوز زحافات الخليل وعلله قصداً، ونجحت أيما نجاح في المزاوجة بين إيقاع النفس وإيقاع اللفظ، قد اعتبرت في مقاييس بعض نقاد الحداثة خللاً عروضياً([35]). وهذاالخلل العروضي نفسه، يثبت مرة أخرى، أصالة نزار الذي يستطيع تجاوز التراث، من غير الحاجة إلى قيود، تجنّبه التعثر في سيره، أو اجتثاث جذوره، فهو مسكون دائماً بالشعر.
_ إن نزاراً موهم بالحداثة أكثر منه تحديثياً، ولعل ما يوهم الجدّة عنده عائد إلى المعاصرة وليس إلى الحداثة([36])، أي عائد إلى اختيار الموضوع وتوليف عناصره بما يتوافق ومزاج العصر، من خلال حشده متضادات تثير فضول القارئ ورغبته، وتستجيب لدواعي الكبت التاريخي الجنسي والاجتماعي والسياسي، فيصفق هذا القارئ لأنين وجعه، لا لانجذاباته أمام جمالات الشعر. وقد أصاب أحد الباحثين([37]) حينما أشار إلى أن نزاراً قد نجح أيما نجاح في جمعه خصيصتي شعر الغزل الكلاسيكي وشعر المجون في التراث العربي، من حيث بث الجرأة في حنايا الضرب الأول، وشيء من الحياة في تضاعيف النمط الثاني، حتى استوى له نمط جديد قائم على مفهوم الإثارة لا الجمال، متوسلاً الغريزة في تجلياتها كافة.
_ إن مفهوم الإثارة في النمط النزاري، يحاكي بمعنىً ما الرؤية السلعية بين القارئ ــ المستهلك، والشاعر ــ المنتج، والقصيدة ــ السلعة. ويصبح هذا الثالوث تحت هيمنة قانون العرض والطلب، الذي يسهم في الاستجابة لحاجات الغريزة، دونما التفات حقيقي إلى الرؤيا الجمالية التي لا تتوافق البتة مع هذا القانون.
_ إن الزعم أن نزاراً قد حرّر المرأة العربية، فيه شيء كثير من الظلم والافتئات. فجل ما فعله نزار أنّه استحضر المرأة الجاهلية من سبات التاريخ خلسة، وألبسها ثياباً حديثة، وأدخلها نوادي العصر. وإننا نلفت إلى أن ما ذهب إليه أحد الباحثين "من أن المرأة النمرة التي تلتهب شهوة وشبقاً، وتسعى إلى الشاعر غير مبالية بشيء، والتي تتكرر صورتها غير مرة، خاصة في دواوين الشاعر الأولى، هي أقرب أن تكون إلى المرأة التي طالما حلم بها منها إلى امرأة عرفها وعايشها؛ إذ غالباً ما يجسّد العمل الفني أحلام الفنان وتهويماته بدلاً من تجسيد واقع حياته"([38]) يحتاج إلى شيء من التوضيح والاستدراك؛ فهذه المرأة النزارية هي المرأة الجاهلية التي عرفتها الأمثال وقصصها، امرأة من لحم ودم؛ وحسبنا أن نشير إلى مثلين، تختزل قصة كل منهما كلاماً كثيراً في هذا السياق؛ وهما "قوِّري والْطُفِي"([39])، و "ما وراءك يا عصام"([40]).. ففي قصة المثل الأول، تقدُّ المرأة من شرج است زوجها قطعة لحم كرمى لعيون عشيقها؛ وتحتال لذلك بأن تعصب على مبال طفلها بقصبة تخفيها، لكي يعسر عليه البول، وتوهم زوجها بأن دواءه في قطعة اللحم تلك. فيرضخ لطلبها تحت ضغط صراخ الطفل واستغاثته، ومثل هذه القصص وأضرابها كثيرة في الجاهلية([41]).
وأما قصة المثل الثاني، ففيها وصف حسي تفصيلي لامرأة جاهلية، بلغت مضرب الأمثال في جمالها، ولم تغادر قصة المثل شيئاً من جسدها إلاّ وأمعنت فيه وصفاً دقيقاً. وإن إحالة سريعة إلى المتجرّدة زوج النعمان والمنخّل اليشكري والنابغة الذبياني تنبئنا بالخبر اليقين([42]).
وختاماً لتلمّس مظاهر الحداثة النزارية، نشير إلى نزار الناثر، بأنه الجميل دائماً، المنساب بلا قيد.
ولا نغالي إذا قلنا، إن الحداثة في تجربة نزار التعبيرية، هي في نثره، أقوى منها في شعره. فهو ينبجس في نثره المرسل، بلا خوف أو مراقبة، مرتكزاً في ذلك على نمط من التوليف، قوامه المزاوجة بين شوارد الكلمات التي ما إن تفجؤك حتى تطمئن إليها، وتعاتب نفسك على استغرابك لها.
Admin- المدير
- عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 13/08/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 16, 2012 1:52 am من طرف Admin
» توبة التائبين
السبت يناير 28, 2012 1:28 am من طرف Admin
» الحماسة في الشعر العربي
السبت يناير 28, 2012 1:26 am من طرف Admin
» Windows Live Messenger 2012
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:29 am من طرف Admin
» الفيلم الدرامي الرائع هليوبوليس
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:14 am من طرف Admin
» ولاد البلد
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:09 am من طرف Admin
» دراسة في شعر الحماسة
الأحد نوفمبر 20, 2011 6:13 am من طرف Admin
» كلام من نور
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:28 am من طرف Admin
» يا رب استجب
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:25 am من طرف Admin