أوقات الصلاة
التقويم القمري
ساعة ماوس
اذاعة القران الكريم
أذكار الصباح والمساء
التقاطبية الأندلسية
صفحة 1 من اصل 1
التقاطبية الأندلسية
تُشيرُ صُحف دارسي الأدب الأندلسي ومن في حُكمهم إلى وجود ملامح لثُنائيّةٍ في ذهن الأندلسي، قطباها الأندلس والمشرق؛ وذلك كأنْ يوصَف الأندلسيُّ بأنَّ عينه على المشرق وعينه الأخرى على كينونته الزائدة على مشرقيّته، أو أن يُكتفى بالتساؤل عن كيفيّة معالجة المفارقة في كون الفرد في شبه الجزيرة الإيبرية أندلسياً مشرقياً في آن واحد(1). وإذا كان الأمر كذلك فإنه يبدو من المفيد الخروج بهذا المفهوم من حيّز الوجود بالقوّة إلى حيّز الوجود بالفعل.
وفي سبيل دراسة تلك الثنائية استعرنا مفهوم (التقاطبية) مِن كتابٍ لحسن بحراوي عن بنية الشكل الروائي(2)؛ لقدرة هذا المفهوم على فضِّ كثيرً من النزاعات، وحلِّ ما لغز منها، لأنه ليس قاصراً على دراسة المكان في الرواية، بل أداة تُستخدم كلّما احتيجَت. وإذا كان يُعين على فهم العلاقات بين عناصر الفضاء الروائي، فهو أيضاً قادرٌ على أن يمارس دوراً لا يقل أهمية عن ذلك؛ لأنه يحقق النظر إلى الحياة في الأندلس في صيرورتها الحركية لا في سكونها الخالي من الحياة، ففي المجتمع الأندلسي لا يمكن عزل الفرد عن إحساسه بسطوة المشرق؛ إذ لم يكن هذا الفرد قادراً على رسم ملامحه الخاصة ـ في أغلب الأحيان ـ بمعزلٍ عما هو عليه الأمر في المشرق، فكانت عينه على المشرق في أغلب مفردات حياته، يحتذيه حيناً، ويتمرّد عليه حيناً آخر، وبهذا كان المشرق بمنزلة الحافز المحرِّك لكثير من أفعال الأندلسي؛ فهو إن ألَّف كتاباً فإنما يؤلفه ليناظر به أهل المشرق أو ليفخر عليهم به. يقول أبو الوليد الحِمْيَري في مقدمة كتابه (البديع في وصف الربيع)، إن "أهل المشرق على تأليفهم لأشعارهم، وتثقيفهم لأخبارهم مذ تكلّمت العرب بكلامها، وشغلت بنثرها ونظامها إلى هلمّ جرّا، لا يجدون لأنفسهم من التشبيهات في هذه الموصوفات ما وجدته لأهل بلدي على كثرة ما سقط منها عن يدي بالغفلة التي ذكرتها عنها، وقلّة التهمُّم بها، وعلى قرب عهد الأندلس بمنتحلي الإسلام، فكيف بمنتخلي الكلام، ولو تأخروا عن إدراك المشرقيين في كل نحو وغرض، وتقهقروا عن لحاقهم في كل جوهر وعَرَض لكانوا أحقّاء بالتأخر، وأحرياء بالتقهقر. فكيف يُرى فضلهم وقد سُبقوا في أحسن المعاني مُجتلىً وأطيبها مُجتنىً، وهو الباب الذي تضمّنه هذا الكتاب، فلهم فيه من الاختراع الفائق، والابتداع الرائق وحسن التمثيل والتشبيه مالا يقوم أولئك مقامهم فيه"(3).
فأبو الوليد ما كتب الذي كتبه إلا وعينه على المشرق، ولولا ذلك ربّما ما خرج كتابه إلى النور. وهذا الفتح بن خاقان يقول عن كتابه: "وسمّيتها: (مطمح الأنفس ومسرح التأنس في مُلَح أهل الأندلس)، وأبقيتها لذوي الآداب ذكراً ولأهل الإحسان فخراً، يساجلون بها أهل العراق، ويحاسنون بمحاسنها الشمس عند الإشراق"(4). وجلي هنا أن الفتح بن خاقان يضع في ذهنه ـ وهو في سبيله إلى تأليف كتابه ـ مساجلةَ أهل المشرق به.
إذن، لا يوجد استقلال في كثير من سلوك الأندلسي، وهذا ما أشار إليه ابن بسام في ذخيرته حين رأى "أن أهل هذا الأفق أَبَوْا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب لَجَثْوا على هذا صنماً، وتَلَوْا ذلك كتاباً محكماً، وأخبارهم الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصيّة ومُناخ الرذيَّة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرَّف فيها لسان ولا يد"(5). وليبعد ابن بسام عن نفسه ما قد يُتّهم به من تحيّز إلى الأندلس أو رغبة عن المشرق، يُحيل الأمر إلى مشكلة الصراع بين الجديد والقديم محاولاً أن يُعلّل منطقية ما يدعو إليه من انصراف إلى الذات الأندلسية في ما تقدّمه من جديد؛ لأن للجديد طلاوة افتقدها القديم من كثرة تعاوره على الألسنة(6).
ولم يتوقف الأمر عند حد تأليف الكتب، بل تجاوزه إلى مظاهر السلوك الاجتماعي بين عامة الناس وخاصتهم، وإلى نُظُم الحكم أيضاً كإعلان الخلافة الأموية مقابلاً للخلافة العباسية.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في (المُعْجب) عن عبد الرحمن بن مُقَانا الأُشْبوني أنه مدح إدريس بن يحيى المسمّى بـ(العالي) بقوله:
يابني أحمدَ يا خيرَ الورى
لأَِبيكُم كانَ وفدُ المسلمينْ
نَزَلَ الوحيُ عليه فاحْتَبى
في الدُّجى فَوْقَهُمُ الروحُ الأمينْ
خُلِقُوا من ماءِ عَدْلٍ وتُقى
وجَميعُ الناسِ من ماءٍ وطينْ
انظُرونا نَقْتَبِس مِنْ نُوركمْ
إنَّهُ من نورِ ربِّ العالمينْ(7).
وكان من عادة الشعراء أن تمدحه من وراء حجاب تقليداً لطريقة بني العباس في المشرق، فعندما بلغ الشاعر قولـه (انظرونا نقتبس من نوركم) أمر إدريس حاجبه بكشف الحجاب. وهذا التقليد يدل على مبلغ تأثرهم بالمشارقة.
فلم يستطع الأندلسي، غالباً، أن يكون هو ذاته؛ لأنه يستند في جلِّ ما يفعله على ركيزة تُحدِّد له سابقاً اتجاهات حركته، هذه الركيزة هي التقاطبية بين الأندلس والمشرق، وما سلوك الفرد إلا نتاج لعلاقتهما، ولم يكن ليمتلك حرية الفعل خارج حدود هذه التقاطبية؛ لأن كثيراً من سلوكه ليس إلا ردود أفعال لما هو عليه الأمر في المشرق. ويختلف الأخذ بمفهوم التقاطبية مفتاحاً إلى فهم بنية السلوك الأندلسي عن القول بمحض تقليد الأندلسي للمشرقي، أو بمحض أندلسيته ومفارقته له؛ فالقول بالتقليد حكم قيمة سلبي لا ينظر إلى الحياة في حركتها الطبيعية، بل يجمدها ويأخذ منها ما يشاء بمعزل عن علاقاته بما حولـه. على حين يبدو القول بالتقاطبية أكثر قدرة على فهم الحياة الأندلسية، بما هي عليه من حركة؛ فهو ليس حكم قيمة، بل حالة وصف مطلقة، وهو محاولة لرد السبب إلى المسبب، والعلة إلى المعلول؛ فالأندلسي لا يقلد فقط، ولا يعارض فقط، ولا يستقل بأندلسيته فقط، بل هو تجادل ذلك كله.
نشأة التقاطبية:
تكمن المشكلة الأساسية لدى الأندلسي في أنه تتوزعه طريقان، طريق تأخذ بمجامعه نحو المشرق، وطريق تسير به إلى الأندلس، فقَدَمٌ على هذه وأخرى على تلك، لا هو بقادر على أن يحيد عن هذه إلى تلك، ولا هو بقادر على العكس، وليته استطاع أن يجمع بينهما بتوافق متّزن، بل كان جمعه إلى الفوضى أقرب منه إلى الاتساق؛ فقد ظنَّهما قطبين متضادين، ولذلك حاد عن الجادة، ولو أنه ضرب صفحاً عن اعتقاده بتضادهما، ونظر إليهما على أنهما متكاملتان لنجح في جمعه، ولاستوى عوده، ولكنه لم يفعل فمال قبل أن يستوي.
فما علّة اجتماع دافعي المشرقية والأندلسية لدى الفرد الأندلسي؟
المشرقية(:
هناك أسباب عديدة مهمة تتميز بقوة التأثير ووضوح المعالم وتجذُّر الوجود دفعت الأندلسيين إلى الإحساس بمشرقيتهم:
من ذلك أن المشرق أصلهم، وموطنهم، هم منه وإليه ينتسبون، منه ارتحلوا وإليه يحنون، وإذا صحَّ عدُّ عبد الرحمن الداخل رمزاً للأندلسيين في خوفه من العباسيين وهربه منهم وسعيه إلى منابذتهم وبحثه الدؤوب عن عزٍّ وحضارةٍ يقابلهم بهما ويعلن حياته ووجوده من خلالهما، إذا صحَّ ذلك له صحَّ أيضاً أن نعد الأبيات التي قالها في النخلة حين حنَّ إلى مرابع صباه رمزاً لصوت الحنين الدفين الذي يطَّوَّفُ في صدور الأندلسيين ويبحث عن مخرج:
يانخلُ أنتِ فريدةٌ مثلي
في الأرض، نائيةٌ عن الأهل
تبكي، وهل تبكي مكمَّمةٌ
عجماءُ لم تُجبَل على جَبْلي!
ولو أنها عقِلَت، إذاً لَبَكَت
ماءَ الفُراتِ ومنبتَ النخلِ
لكنها حُرمت، وأخرجَني
بُغضي بني العباسِ عن أهلي(9).
وأنَّى لرجل أن ينسى موطنه الذي نشأ فيه وشبَّ عن الطوق؟ وإن غلبه أمر على أن يهجره فإنما يحمله في صدره أينما حط عصا ترحاله، تستثيره الذكريات ويُهدهده الأمل. هذا هو عماد ما أحس به الأندلسيون تجاه المشرق؛ فهم منه ولكنهم بعيدون عنه.
ولعل هذا الحنين بدأ يفتر شيئاً فشيئاً منذ إعلان الخلافة، وراح الرجال يُنسَبون إلى أماكنهم من الأندلس كالمالَقي والسَرَقُسْطي والَبطَلْيَوْسي... الخ. بدلاً من نسبتهم إلى قبائل أو أماكن مشرقية.
وزاد من عمق هذا الإحساس أن المشرق عندهم بمثابة الهويَّة وتراث الأجداد؛ فهم إن قيل: عرب فإلى المشرق نسبتهم، وإن قيل: مسلمون فمن المشرق نشأتهم. ولا يربطهم مع المكان في الأندلس تاريخ مشترك، على حين تمتد جذور هذا التاريخ في كل ذرة من صحارى المشرق وسهوله.
ويبدو أن ما يُعرف عن إعجاب الأجيال اللاحقة بالأجيال السابقة قد أسهم في دفعهم إلى المشرقية(10)، إذ لا مستقبل بغير ماضٍ، ولا جدَّة بغيرِ قِدم؛ فاللاحق لا يستطيع أن يبدأ من فراغ، ولابد له من مُتّكأ وأساس يبدأ العمل عليه، فالحضارات تتكامل صيرورتها بحركة ماضيها الدافعة للحاضر والمستقبل. ولكي يكون المرء أميناً لانتمائه إلى أمته لابد له من ملامح مشتركة مع تراثه، تبرز هذه الملامح حين تنبض الحركة نحو المستقبل بروح الحضارة العامة تراثها وحاضرها، وبهذا التكامل تتشكل الهوية الخاصة بكل حضارة على وجه الأرض.
وبمناسبة الحديث عن الحضارات يبدو من الضروري الإشارة إلى أن المشرق هو مهد الحضارة الإسلامية، فيه خرج الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومن خلاله انتشر الدين الإسلامي إلى أقاصي الأرض، وفيه تشكّلت الخلافة الإسلامية بخلفائها الراشدين، ومنه انطلقت الفتوحات الإسلامية، وإليه ـ حيث الكعبة المشرّفة ـ تتوجّه كل يوم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهو، إذن، قبلة المصلّين، ومنبع الدين، ومحل الأماكن المقَّدسة التي يؤمها المسلمون طلباً للحج. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد فقط، بل كان المشرق أيضاً منبع الثقافة، ولذلك كثرت رحلتهم إليه؛ فمن الشرف عندهم أن يروي أحدهم عن شيوخ حواضر المشرق(11).
ولا يكون الشاعر شاعراً، إلا إذا قورن بصنوه في المشرق، فإذا جاء بما يعدله أو يفوقه كان له حق الريادة بين أهله، وإذا لم يستطع أن يفعل فلن يجد أذناً مصغية أو اعترافاً بحق. ولقد جرَّ هذا الأمر على الشعراء أذىً كبيراً؛ فلم يكن لِيَعْتَرف بفضلهم أو سبقهم؛ لأن الخاصة مقتنعون قبل العامة بأن الفضل يكاد يكون لأهل المشرق دون غيرهم، وكل من سواهم متطفّل على مائدتهم، غريب عنها، ولذلك كثرت معارضتهم لشعراء المشرق(12). وقد لخّص ابن حزم هذه المعاناة في رسالته عن فضل الأندلس، فقال: "إنها [الأندلس] خُصَّت من حسد أهلها للعالِم الظاهر فيهم الماهر منهم، واستقلالهم كثيراً ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبُّعهم سقطاته وعثراته، واكثر ذلك مدّة حياته، بأضعاف مافي سائر البلاد"(13). على أنه يجب ألا يغيب عن البال أن كلام ابن حزم هذا يحمل من الخصوصية الشيء الكثير؛ إذ للمحنة التي عصفت به آثار واضحة في أسطره، ولكنها تبقى دليلاً على موقف الأندلسيين من أدبائهم وعلمائهم في فترة من الفترات(14). وعلى موقفهم من المشرق وتقديسهم لثقافته وعلمائه. وقد رأى أحد الباحثين أن نظرة التقديس التي ينظر بها أهل الأندلس والمغرب إلى الشرق حقيقةٌ كانت وما تزال حتى اليوم، وسببها أنهم يرون المشرق نبعهم الأصيل، وماهم إلا فروعه في الثقافة واللغة خاصة.(15).
وهذا الحديث يقود إلى الكلام على اللغة العربية التي يعد المشرق منبعاً لها؛ فالأعرابُ الذين يُستشهد بكلامهم إنما هم من بواديه، وكتب اللغة البلاغية والنحوية إنما هي منه، وعليها تتلمذ الأندلسيون، مثل (الكتاب) لسيبويه، أو كتب الكسائي(16). ولقد غالى بعضهم في حديثه عن اللغة العربية في الأندلس حين وصفها بالبداوة، والخيال، وجزالة العبارة، وسلامة التركيب والإعراب، وفخامة الألفاظ، والجرس وحلاوة الموسيقا، وأنها ما داخلها الضعف ولا شابها دخيل أو عجمة، بحجة أن الذين هاجروا إليها كانوا بداة غيورين على اللغة(17). فهذا الكلام يخالف ما ذكره المقرّي نقلاً عن ابن سعيد في (المغرب) حين قال: "كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي، المشار إليه بعلم النحو في عصرنا، الذي غرَّبت تصانيفه وشرَّقت، وهو يُقرئ درسه لضحك بملء فيهِ من شدّة التحريف الذي في لسانه، والخاص منهم إذا تكلّم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه، لكن ذلك مراعىً عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل"(18).
وليس بعيداً عن الحقيقة في شيء القول إن الأندلسي كان يدين بالولاء للمشرق بحكم التبعيَّة له؛ فالأندلس ـ وإن أعلنت الخلافة في عهد من عهودها ـ ليست إلا إقليماً من الأقاليم الإسلامية؛ وولاية من ولايات المشرق الإسلامي، فتحها المسلمون القادمون من هناك لنشر دين الله بين ربوعها، ومنذ ذلك الحين ما استطاعت أن تخرج عن حدود هذه الولاية، لأنه خرج غير مستطاع، وليس من سبيل للوصول إليه، ولذلك كان التأثر بالمشرق هو تأثر الفرع بالأصل، ومن الطبيعي أن يتم هذا التأثر والتأثير؛ لأن فاتحي الأندلس مشرقيون، وثقافتهم مشرقية، ولغتهم العربية هي لغة أهل المشرق فكيف لا تكون حياتهم مطبوعة بطابع المشرق؟ (19). وهذا الولاء ولاء طبيعي تفرضه طبيعة الحضارة الإسلامية التي امتدَّت أقاليمها شرقاً وغرباً، ولكنَّ الأندلسيين أبَوْا إلا أن ينظروا إلى الأمر على أنه صورة لغالب ومغلوب، فاتصف كثير من أفعالهم بملامح من هذا التصور؛ فديدن المغلوب تقليد الغالب أو معارضته في سائر أحواله كالملبس والمأكل وغيرهما؛ لاعتقاد النفس بكمال من غلبها(20).
وهم فضلاً عن محاولاتهم تقليد المشارقة كانوا يقرّون بضعفهم أمامهم وقلة حيلتهم معهم، فمن ذلك ما ورد في رسالة كتبها أبو المطرِّف بن مُثنى رداً على رسالة بعثها إليه أحد المشارقة؛ وفيها يقارن أبو المطرِّف بين الأندلسيين والمشرقيين فيقول: "وكيف نجاريهم، وإنما نحكيهم! وهل نحن ـ أهل هذه الجزيرة النائية عن خيار الأمم، المجاورة لجماهير العجم ـ إلا أجدر البريَّة باللكن وأولاها بعدم الفطن، وأخلقها بالخَرَس، وأحقّها بغلظ الحس؟! فلم يقرع سمع ابنٍ من أبناء خاصّتنا عند ميلاده، ولا خامر طبع الرضيع منهم في مهده إلا كلام أَمَةٍ وكعاء أعجمية خرقاء، ولا ارتضع إلا ثديها، ولا اكتسب إلا عيّها، ولا سكن إلا في حجرها، ولا مَرَنَ إلا بتدبيرها، حتى إذا صار في عديد الرجال، وانتهى إلى حدود الكمال باشر طوائف النصرانية فخاطبهم بألسنتهم، وجدَّ في حفظ لغتهم، وعانى طباقهم، وكابد أخلاقهم، أفليسَ الذكاء مع هذا أبعد من ذُكاء عنه؟ وأما العامة منّا فقد انقطع فيها المقال، وصحّت المخيّلة والخال"(21).
ففي النص اعتراف بالضعف للأندلسي والقوّة للمشرقي، وهذا أمر غريب؛ لأن كاتبه توفي في زمن(22) يفترض فيه أن الشعور بالأندلسية قد استطال عما كان عليه بادئ أمره. وهذا ليس رأي رجل واحد فقط، فثمة أدلة كثيرة تعضد هذا الأمر، منها أبيات قالها ابن جُبَيْر، وهو أندلسي، يُفضِّل فيها المشرق على
المغرب:
لا يستوي شرقُ البلادِ وغربُها
الشرقُ حازَ الفضل باستحقاقِ
اِنظر لِحَالِ الشمسِ عند طلوعِها
زهراءُ تصحب بهْجَة الإشراق
وانظر لها عند الغروبِ كئيبةً
صفراءُ تُعْقِبُ ظُلْمةَ الآفاق
وكفى بيومِ طلوعِها من غربِها
أن تؤذِنَ الدُّنيا بوِشْكِ فراقِ(23).
وتُبْرزِ هذه الأمثلة بجلاء موقف الأندلسي من المشرق، وهو موقف غريب، خارج عن حدّه الطبيعي؛ فلو أن الأندلسي ترك الأمور تسير على طبائعها إذن لكانت حاله حال المسلمين في الأقاليم الأخرى كمصر وخراسان وغيرهما، ولكنه غالى في شعوره بضعفه وتبعيَّته إلى المشرق حين ظنَّ الأمر صراعاً بين غالب ومغلوب، فألجأ الدارسين إلى القول بتقليده له، على حين أن الأمر كله لا يعدو أن يكون اتكاء الفرع على أصله والابن على أبيه. و"لو لم يكن التقليد مقصوداً لكان التشبيه أيضاً محتوماً"
(24). وما ذاك إلا لأنهما (المشرقي والأندلسي) ينتميان إلى حضارة مشتركة.
الأندلسية(25)
إن عزل الأندلسية عن المشرقية ليس بسبب تتاليهما تاريخياً، ولا يراد به أنهما منفصلتان؛ فالشعور بالمشرقية واكب الأندلسية خطوة خطوة، إن قوي الإحساس بهذا ضعُفت تلك، وإن ضعفت هذه قويت تلك، وهذا الفصل إنما هو للتسهيل الدرسي فقط.
لعلنا لا نعدو الحقيقة في شيء إذا قلنا: إن الأندلسية بدأت تخطّ أسطرها الأولى منذ وصول عبد الرحمن الداخل الذي حمل معه شعوراً غالباً بعزة النفس ورغبة في الاستقلال وإرادة قويّة في بناء مملكة توازي الممالك العباسية أو تفوقها، فشرع يبني مملكته حجرة حجرة، وكان له ما أراد، ففرض السطوة والأمن، وأخضع الأطراف المتمرِّدة، وقضى على الثورات والفتن، وانتقلت رغبته في الاستقلال إلى الأمراء الأمويين من بعده فتطاولوا في البنيان وشيَّدوا المساجد، وشجعوا الأدب والأدباء بالعطايا والهبات، تحدوهم الرغبة في ألا يكونوا ذيلاً للعباسيين. ولقد كانت هذه الروح كفيلة بإيقاظ الشعور بالخصوصية بله التفرّد؛ فقد أحس الفرد الأندلسي أنه ينتمي إلى مجتمع يسعى ما استطاع إلى أن يُثبت تفوّقه على المشرق. وهو سعيٌ يُمثِّل حرص الأمويين على إثبات القوّة أمام العباسيين، ولذلك كان أمراؤهم حريصين على سبق العباسيين في جمع وسائل النهضة لدولتهم في مختلف المجالات. وربما كان سرّ ذلك أن الأمويين يريدون أن يفهم الناس أنهم هم الأمل المرتجى؛ لتتعلَّقَ بهم القلوب حين ينقطع رجاؤها في الخلافة العباسية ا لتي يترقّبون زوالها(26). ولعله من البدهي أن نقول: إن هذا الخلاف السياسي بين الدولتين كان يستند إلى تباين (ايديولوجي) عميق بينهما يعود إلى اختلافهما حول إمامة المسلمين.
غير أن هذا السباق لم يقتصر على القادة فقط، إذ سرعان ما تشربته عامة الناس وخاصتهم، فأصبح التنافس مع المشارقة ديدنهم الذي ما فتئ يغزل لهم كل سلوك أو قول؛ ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم ليسوا تبعاً لأحد، وإنما هم السابقون.
ومما أزكى فتيل التنافس إعلان الخلافة من عبد الرحمن الناصر؛ فهذا يعني أن الشعور بالاستقلال لم يعد كافياً لإرضاء الأمويين، فأعلنوه رسمياً وعلى الملأ غير هيّابين أو خائفين؛ فبغداد في حال لا تسمح بحربهم. وهكذا استطال الشعور بالأندلسية، ولم يعد الفرد ينتمي لإمارة عباسية بل لخلافة أموية مستقلة.
ولقد عمل الأمراء بما عرفوا به من بُعد الهمّة على أن تكون الأندلس مركزاً ثقافياً مرموقاً بين البلاد التي تجاورها، فحرصوا على العلماء وتنافسوا في اقتناء الكتب والمكتبات. حتى إن الحكم الثاني: "كان له في القاهرة وبغداد ودمشق والاسكندرية عمال مكلّفون باستنساخ كل الكتب القيّمة قديمة كانت أو حديثة، وكان قصره حافلاً بالكتب وأهلها حتى بدا وكأنه مصنع لا يُرى فيه إلا نسّاخون ومجلّدون ومزخرفون يحلون الكتب بالمنمنمات والرسوم الجميلة"(27)، فتهيأت للأندلس بذلك شروط الاستقلال المعنوي. ويبدو أن هذا الشعور بالرغبة في التميّز على المشارقة قد أدركه بعض الشعراء فراحوا يلمِّحون إليه في شعرهم، ولأبي العَلاء صاعِد بيتان في المنصور بن أبي عامر يشير فيهما إلى تفضيله المنصور على ملوك المشرق كافة:
إليك حدوتُ ناجية الرِّكابِ
محمَّلة أماني كالهضابِ
وبعتُ ملوكَ أهلِ الشرقِ طرّاً
بواحدها وسيِّدها اللبابِ(28).
ولعل لموقف الاستصغار الذي وقفه المشارقة من الأندلسيين كبير أثرٍ في إثارة الغضب للكرامة الجماعية والاعتداد بالأندلسية، فقد تُنوقلت أخبار كثيرة عن استحسان المشارقة لأشعار أهلهم دون غيرها، فمن ذلك أن سعيد بن أحمد لما رحل إلى مصر لقيه بعض الأدباء، واستنشده لأهل الأندلس فأنشده، فعلّق المصري بأن شعر أهل المشرق أجمل من شعر أهل الأندلس، فأراد سعيد أن يمتحنه فقال لـه: صدقت، فكيف لنا أن نقول مثل قصيدة أبي نواس، وذكر له أبياتاً ليحيى الغزال الأندلسي، فظنها المصري لأبي نواس فطار بها فرحاً، فلما طالت بها سعادته أطلعه سعيد على حقيقتها، وأنه أراد بذلك امتحانه، فخجل(29). وقد علّق صاحب (المُطرِب) على هذه الحادثة بقوله: "وهذا الشعر لو رُوي لعمر بن أبي ربيعة، أو لبشار بن برد، أو لعباس بن الأحنف، ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لاستُغرب له، وإنما أوجب أن يكون ذكره منسياً أن كان أندلسياً، وإلا فما له أُهمل، وما حقَّ مثل أن يُهمل.. وهل نحن إلا نُظلم في حقنا ونُهتضم!... ياللهِ لأهل المشرق! قولة غاصٍّ بها شَرِق. ألا نَظَروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، وأقصروا عن استهجان الكريم الهِجان، ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان. لئن أرهَفت بصائَرهم البصرةُ وأرقّتها الرّقّتان، فقد درجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان فإن منهما مخرج اللؤلؤ والمرجان"(30). ويظهر من هذا التعليق أن صاحبه يضيق بموقف المشارقة من الأندلسيين، ولا يرى فيه سلوكاً فردياً خاصاً، بل موقفاً جماعياً، وهذا الأمر ولّد لدى الأندلسيين ردة فعل قويّة جعلتهم في أحايين كثيرة يفضلون أدبهم وعلمهم على المشارقة؛(31). وما ذاك إلا لإعادة التوازن إلى شعورهم الجماعي الذي كان يرفض موقف المشارقة ويرى فيه خروجاً عن جادة الحق. وإذا كان لأحد ـ كما يبدو من كلام صاحب (المُطرِب) ـ أن يفخر على آخر فإنما ذلك حقّ الأندلسي على المشرقي؛ لأنه بحكم الأصل مشرقي، ولكنه يزيد عليه بوجوه مختلفة، ولذلك هو مشرقي وزيادة. ولقد دفع هذا الموقف المشرقي تجاه الأندلسيين ابنَ سعيد إلى تأليف كتاب في المناظرة بين المشرق والمغرب، وقال عن ذلك: "والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتاباً وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك من شدة إنحاء المشارقة على المغاربة من كل جهة"(32).
ولعل مما أسهم في إزكاء إحساس الأندلسي بالتفوّق على المشرقي ما حباه الله به من طبيعة غنية ساحرة. كما أن جهاده المستمر في سبيل الله ـ بسبب تماسه المباشر مع حدود الأعداء ـ جعله يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه حامي حمى الدين ورافع راية الإسلام(33). ولاختلاف البيئة الأندلسية عن المشرقية دور كبير في إزكاء الخصوصية؛ لأنها تعني تغيراً في طرائق الحياة وملامح الخلق. وإذا أضفنا إلى ذلك الاختلاط بالجيران من الأمم الأخرى وما له من تأثير أدركنا البعدَ الحقيقي لأثر اختلاف البيئة. وأكثر ما تُلتمس مظاهر تغير البيئة في الأمثال، لأن المثل شديد الالتصاق بتفاصيل الحياة اليومية، ولذلك كان الأقدر على عكسها بين ثناياه. ومن ينظر إلى الأمثال الشائعة في الأندلس يستطيع أن يلتمس بسهولة خصوصيتها وتميّز كثير منها عما هو شائع في المشرق(34).
وكان عهد ملوك الطوائف عهد نعمة على الأدب والأدباء، ولم تكن الصورة السياسية للأندلس المجزَّأة لتعكس صورة الأدب فيها؛ فقد كان في تفرُّق ملوك الطوائف ـ كما يرى الشَّقُنْدي ـ كبير فضل على العلماء: "إذ نفّقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظور، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بَذَلَ وُسْعَه في المكارم، ونَّبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم... ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهاديَ النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البرّاض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافساتهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمئة دينار"(35). فانعكس هذا المناخ الثقافي إيجاباً على شعور الأندلسي بذاته، فتقدّمت الأندلسية خطوات إلى الأمام(36).
ولقد برزت الأندلسية بقوّة في عهدي المرابطين و الموحدين؛ لأن الضغوط التي حلّت بالأندلسي كانت كبيرة، فكان رد فعله كبيراً أيضاً؛ فبعد أن كان يشعر بالاستصغار من المشارقة فقط أصبح الآن يشعر به من المغاربة أيضاً، وعليه، إذن، أن يحارب (حرباً معنوية) على الجبهتين معاً. حتى إن مجالس خاصة كانت تعقد للتفاضل بين أهل الأندلس وأهل المغرب، وقصة رسالة الشَّقُنْدِي شهيرة في هذا الباب.
وقد كان لشعور الأندلسي بعودة التبعيَّة وفقدان الاستقلال كبير أثر في نفسه، فبعد أن كانت الأندلس مملكة قائمة بذاتها غير تابعة سياسياً لأحد أصبحت فجأة ولاية من ولايات المغرب يسوسها قوم من غير أهلها. كل ذلك كان يدفع الأندلسي إلى أن يبحث عن أندلسيته، وينافح عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولعل إدراك ذلك يبدو واضحاً إذا عُلم أن أهم المؤلفات الأدبية التي دافعت عن الأندلسية وحاولت إبرازها إنما كتب معظمها في عهدي المرابطين والموحدين، (كالذخيرة)، و(المطرب) ورسالة الشَّقُنْدِي... الخ.
ولابد من الإشارة إلى أنه في عهدي المرابطين والموحدين، ظهرت ثنائية جديدة تشبه تلك التي بين المشرق والأندلس، وقطباها المغرب والأندلس، ولكنها تختلف عن سابقتها في أننا لا نستطيع أن نقول بأن ثمة شعوراً بالمغربية يجذب الفرد نحو المغرب، وإنما هي تبعية المغلوب، للغالب. وإن كان ثمة تقليد فمن زاوية الغلبة فقط، كتقليد الأندلسيين للمرابطين في لبس اللثام(37). كما تختلف هذه الثنائية في أن التقليد فيها لا يُقَارنَ بالمعارضة والتميز والتنافس. غير أننا لا نستطيع أن نُهمل الإشارة إلى هذه الثنائية لأنها تُعَزِّز مقولة التقاطبية في الذهنية الأندلسية.
الأندلسية، إذن، مطلب لا مهرب منه، لاحقت أفرادها منذ أن وطئت أقدامهم شبه الجزيرة الإيبيرية، واشتد عودها شيئاً فشيئاً حتى لم يُستطع الهرب يوماً من ربقتها، بل لقد غدت هي المطلب والخيار الوحيد للبقاء بقوّة.
وهكذا تأكَّدَ مما سبق خضوعُ الأندلسي لقوّتين تتجاذبانه: مشرقيَّته وأندلسيَّته، وتبيّنت أيضاً علّة هذا التجاذب وتجذّره في واقعه، فالأندلسي ما استطاع أبداً أن ينفك عن إحداهما إلى الأخرى؛ لأن ثمة عوامل قوية تشدّه إليهما معاً في آن واحد، أهمها: الانتماء الإسلامي؛ والانتماء العربي، والانتماء اللغوي، وكون الأندلس أولاً وأخيراً ولاية عربية إسلامية كغيرها من الولايات، شاء ذلك الأندلسيُّ أم أبى، وهذا كله يؤكد أن نظم حياة الأندلسي وسلوكه ونتاجه الأدبي لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن التقاطبية التي تحركه.
ولقد سبق أن أشار عبد الله بن ثقفان إلى أن هنالك تجاوراً بين الانتماء المشرقي والانتماء الأندلسي، ولكنه أرجع هذا التجاور إلى ما أسماه أدب القوّة (المشرقي) الذي يكون دائماً أساساً لأدب المعرفة (الأندلسي)(38). وقد تحدث أيضاً أحمد صلاحية عن تجاور تياري المشرقية والأندلسية في الأندلس بدرجات متفاوتة بين كل عصر، ولكنه اكتفى بالبحث عن ملامح ذلك في الشعر(39). وما نقول به يختلف عن الدراستين السابقتين في أنه لا يكتفي بسرد ملامح المشرقية والأندلسية، بل يسعى من خلال ذلك إلى القول بأن هذين الملمحين أسهما في تشكيل ذهنية جماعية أندلسية أو عقلية جماعية أندلسية خاصة قائمة على التقاطبية، من غير أن نبالغ في تقدير ذلك، إذ لا نرى أن هذه العقلية تجعل الأندلسي شاذاً عن أقرانه من أبناء الحضارة الإسلامية بقدر ما تمنحه درجة معيّنة من الخصوصية. فكل مافي الأمر أننا نعتقد أن التقاطبية طريقة في التفكير وفي الحياة فرضت ظلالها على المجتمع الأندلسي بمناحيه المختلفة.
مزايا القول بالتقاطبية:
إن القول بالتقاطبية، يفيد من وجوه متعدِّدة؛ فهو من جهة يرد على بعض المقولات الخاطئة التي وُصم بها الأندلسي، ومن جهة أخرى يُعد مفتاحاً حقيقياً لفهم تركيبة سلوك الفرد الأندلسي؛ لأن التقاطبية أسْهمَت في تشكيلها على صورة خاصة.
أما المقولات الخاطئة التي تردها التقاطبية فنجملها فيما يلي:
ينتشر في كتب الدارسين اتهام الأندلسي بعقدة النقص تجاه المشرقي، كأن يقول أحدهم متسائلاً: هل كان الأندلسيّون "يشعرون بعقدة النقص تجاه أدبائهم عند مقارنتهم بالمشارقة، فكانوا لا يعترفون بأدبائهم مالم يُظهروا من البراعة و الذكاء ما يجعلهم يتفوّقون على المشارقة؟... [ويُجيب]:... إن العقدة موجودة وينبغي أن تكون موجودة من الناحية العلمية للأسباب النفسية الموروثة المتأصّلة عبر التاريخ العربي في الأندلس"(40). ويقول آخر: "على أن من أهم خصائص الأندلسيين من الناحية النفسية ذلك الإحساس الذي يكاد يكون مركب نقص عاناه الأندلسيون بسبب وضعهم من المشارقة"(41). ويظهر من المثال الثاني أن صاحبه لا يريد أن يجزم بوجود مركب النقص هذا، ولذلك يستخدم الفعل (يكاد) غير أن الشاهدين ينظران إلى تطلع الأندلسي نحو المشرقي بعين النقص، فماذا يعني هذا الاتهام؟... جاء في تعريف عقدة النقص أنها تشمل: "كل ما للشخصية من أعراض تُشعر بأن الشخص غير واثق من نفسه، وأنه يرزح تحت عبء إحساسٍ بالضعف والقصور والتخاذل"(42)، فهل كان الأندلسي في كل حياته يرزح تحت وطأة الإحساس بالنقص أمام المشرقي؟ لقد مرَّ سابقاً أن الأندلسي تجاذبته قوتان: (مشرقيّته وأندلسيّته)، وأنه ما مضى عليه حين من الدهر، لم يكن فيه مشدوداً إليهما معاً. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نسلّم لمن يتّهمه بعقدة النقص؛ لأنه كان يشعر بتبعيته للمشرق وبتفرّده في آن واحد. فهو لم يكن (غير واثق بنفسه)، بل ربما كانت ثقته الزائدة وطموحه العالي من الأسباب التي دفعته إلى البحث عن فرادته وتميّزه أمام أقرانه من المشارقة.
ولعل معترضاً يقول: إن إحساس الأندلسي بتفرده كان مجرّد رد فعل تجاه شعوره بالنقص أمام المشرقي، وبالتالي يصبح الاعتماد على التفرد لرد القول بعقدة النقص باطلاً! ولكن.. لم يكن مبعث الإحساس بالتفرد مديناً لأسباب خارجة عن طبيعة المجتمع الأندلسي، بل ثمة أسباب داخلية كفلت له التنامي، كالبيئة، والجيران، والجغرافية، واختلاف الولاء للخلافة، والعادات المختلفة... الخ. وهذا لا يعني نفياً للسلوك الذي ظنه الدارسون ضعفاً، بل محاولة لوصف الأشياء بما هي عليه حقاً؛ فسلوك التقليد قائم، ولكن ليس مردّه الضعف فقط، وإنما التقاطبية التي ما فتئت تجذب الفرد نحو قطبيها: المشرق والأندلس. وليس من الموضوعية في شيء أن يُنعت تطلع الأندلسي إلى المشارقة بالنقص؛ لأن هذا التطلع وهذا التقليد لا يخرجان عن كونهما سلوكاً طبيعياً يؤديه الفرد بحق تراثه وأصله. فالقول بمحض النقص، إذن، لا يعترف إلا بنصف الحقيقة، أما القول بالتقاطبية فيجمع نصفي الحقيقة، وينظر إلى الحياة في سيرورتها الحيّة المتشعِّبة. وهذا الكلام يقود حتماً إلى نفي التقليد لدى الأندلسيين؛ فلم يكن الأدب أو السلوك الاجتماعي والسياسي تكراراً لمثيله المشرقي كما رأى بعضهم (43)؛ فهذا نصف الحقيقة أيضاً، ولابد كي تكتمل الحقيقة من الاعتراف بخطوات الأندلسي الوئيدة والنشطة تجاه أندلسيته، تلك الخطوات التي ما لبثت أن تسارعت واستطالت.
وليس من العلمية في شيء أيضاً أن نُغمض الأعين عما يربط الأندلسي بالمشرق من جذور حضارية وثقافية، ولا نرى في بحثه عن التفرُّد إلا سعياً نحو ملامح قومية إسبانية، فهذا بخلاف الحقيقة، وإن اعتقده غير واحد من المستشرقين والعرب(44)؛ فلا مجال للتغافل عن عُروبة الأندلسيين الإسلامية، تلك التي تفرض ظلالها في شتى مجالي الحياة الاجتماعية واللغوية والثقافية والحضارية.(45).
ومن مزايا التقاطبية أنها تُستخدم مفتاحاً لفهم التركيبة النفسية للأندلسي؛ سرُّ ذلك أن التقاطبية هي الأساس الذي صدرت عنه هذه التركيبة. ولن يُستطاع فهم النفسية الأندلسية، بما هي عليه، بمعزل عنها؛ وإِن أُغفِلَت فلن نرى في سلوك الأندلسي وحدةً ما أو عاملاً مشتركاً أو تناسقاً، بل سنراه ضرباً من الفوضى التي لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط. فقد شاع بين الدارسين اتهام الأندلسي بالتناقض في سلوكه:
(46) بين التعصب والتسامح، بين التمرد والتبعية، بين العزة والدونية، مستندين في ذلك إلى المظاهر الخارجية لسلوكه العام، ولكن لو نُظر إلى هذا السلوك بعين التقاطبية فسيتم الوصول إلى العلة الحقيقية له؛ لأنه يمكن حينها رد كل سلوك إلى دافعه وأصله. ولإثبات ذلك سنناقش أهم مظاهر التناقض التي تتجلى في وجهي الأندلسي: المتميِّز والتابع.
فمن مظاهر الوجه المتميّز: تقصُّد التميّز لدى الأندلسيين، يقول صاحب النفح: "وأما حال أهل الأندلس في فنون العلم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميُّز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميّز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً
عالة على الناس، لأن هذا عندهم في غاية القبح"(47).
ومن مظاهره أيضاً حرصهم الشديد على النظافة؛ فأهل الأندلس: "أشدُّ خلق الله اعتناءً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلّق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومَه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها".(48)
وأهم من ذينك تفردهم في لبس البياض في الحزن، وهو أمر يخالف ما عرف عن سواهم من سائر الأقطار(49). يقول في ذلك ابن شَاطر السَّرَقُسْطِي:
قد كنتُ لا أدري لأَيّةِ علّةٍ
صارَ البياضُ لباسَ كلَِّ مُصابِ
حتى كساني الدهرُ سحْقَ ملاءةٍ
بيضاءَ من شيبي لفقدِ شبابي
فلذا تبيَّن لي إصابةُ من رأى
لبس البياضِ على نوى الأحبابِ(50)
وقال أحدهم في الأمر نفسه:
ألا يا أهلَ أندلسٍ فَطنتُمْ
بِلُطْفِكُمُ إلى أمرٍ عجيبِ
لبستُمْ في مآتِمِكُمْ بياضاً
فجئتم منهُ في زيٍّ غريبِ
صدقتُمْ فالبياضُ لباسُ حزنٍ
ولا حزنٌ أشدُّ من المشيبِ(51).
وهذه كلّها مظاهر تدل في مجملها على قصد واضح للتميّز.
أما مظاهر التبعية فأهمها التقليد، وهو ما عُرف به الأندلسيون تجاه المشارقة حيناً ثم تجاه المغاربة في عهدي المرابطين والموحدين حيناً آخر، وقد مرّت سابقاً أمثلة تدل على ذلك.
إن هذه المظاهر المختلفة من التميّز والتبعية هي التي دفعت الدارسين إلى اتهام الأندلسي بالتناقض، على حين أن الأمر ليس كذلك أبداً. فهي إن دُرست من زاوية التقاطبية وُجِدَ أنّه ليس من تناقض، بل تجادل، ولا مناص من الاعتراف بتوازي خطّي (التفرّد) و(التبعيّة) لدى الأندلسي؛ فقطبه الأول (الأندلسية) هو الذي يدفعه إلى التميّز والبحث عن التفرّد، كمظاهر التميّز والنظافة ولبس الأبيض في الحزن للمخالفة. وقطبه الآخر (المشرقية) هو الذي يدفعه إلى التقليد والتبعية. فليس من تناقض، وإنما هي صيرورة الحياة الخاصة بالأندلس، تلك الحياة يجب أن يُنظر إليها ضمن صفاتها الخاصة بها.
ولم يبق الأمر على هذه الدرجة من البساطة التي يوحي بها؛ فالقطبية بين الأندلسية والمشرقية، بين التفرد والتبعية، سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه الصراع؛ إذ تَطوَّرَ هذان القطبان إلى قوّتين جاذبتين تسعيان بكل طاقتهما إلى فرض ظلالهما على مجمل السلوك الأندلسي، فظهر بذلك ما دُعي بظاهرة التطرف
(52). فَتَطوُّرُ التجادل بين قوتي التفرد والتبعية هو الذي خلق هذا التطرف؛ لأن الفرد أصبح محكوماً بهما بشكل غير واعٍ؛ هذه تحاول فرض هيمنتها بالمغالاة في مظاهرها، وتلك تُبادلها السعي ذاته. ولذلك نرى تمسُّك الأندلسيين بمذهب الإمام مالك يأخذ شكلاً عَصَبِياً شديداً. ومردّ ذلك لا يعود إلى ما قيل عن مدح الإمام مالك لهشام بن عبد الملك فقط(53)؛ فهذا المدح ربما كان سبباً مبدئياً في نشر المذهب، ولكن الذي دفع الأندلسيين إلى التمسّك به بشدّة هو قوّة التفرّد التي ما فتئت تنفخ في نارهم وتحتطب لها؛ لتغلب قرينتها؛ فقد رأى الأندلسيّون في تمسّكهم بهذا المذهب خصوصية يسعون جاهدين إليها. وما عُرِفَ عن ترخّصهم في اللهو والمجون إنما مردّه قوة التبعيّة التي تحاول جاهدة أن تبذ قرينتها وتخفِّف من أوارها؛ إذ التبعيّة تعني تكرار ما يفعله الغير و تقليده، وهذا التقليد يشبه الموت؛ إذ لا حياةَ فيهِ لأن لا جدّة فيه. كما أن التقليد يعني نسياناً لفردية الذات، بل نسياناً للذات كلها. واللهو والمجون مظهران مهمّان لهذا النسيان ومن هذه الزاوية أصبح الترخص فيهما مظهراً من مظاهر قوّة التبعية.
وإذا أخذنا بعين التقدير هاتين القوّتين استطعنا أن ندرس السلوك الأندلسي على ضوئهما، لنفهم دوافعه الحقيقية ومساراته التي يسير بها؛ إذ لا يكفي أن ندرس الذات الأندلسية من زاوية واحدة، كالتفرّد وحده، أو التبعيّة وحدها(54).
نتائجها:
لعل القلق أن يكون من أهم ما أفرزته التقاطبية على المجتمع الأندلسي، فهو بحق آفة العصر التي عانى منها الأندلسيون أفراداً وجماعات، فالأندلسي مُقَيَّد بقوّتين متضادّتين، اختارهما بمحض إرادته ولم تفرضا عليه من الخارج، ولا يستطيع الاستغناء عن أيٍّ منهما، بل يطلبهما معاً، على الرغم من اعتقاده بتضادهما وعدم اجتماعهما معاً. ولذلك ينتابه إحساس دائم بعدم الرضى لأنه يشعر بأن المراد شيء والواقع الحاصل شيء آخر تماماً وهذا الأمر مستمر باستمرار الصراع بين مظاهر القوّتين المتضادتين، كالصراع بين: الشعور بالتبعية للمشرق أو المغرب مع الرغبة بالتفرد والتمّيز، وكذلك الحرص الشديد على مظاهر الدين مع الغرق في المجون واللهو.
وكأننا أمام صراع للبحث عن إجابة للسؤال الجديد القديم: أكون أو لا أكون؟ ولكن الأندلسيين بقوا مترجّحين بين حدَّي السؤال، لا إلى أولئك ولا إلى هؤلاء. وقد ولّد ذلك كله القلق والاضطراب؛ القلق الذي لا يجعل للسكينة مكاناً في القلب، والاضطراب الذي لا يمنح فرصة للاستقرار. ومع الاثنين يكون الألم هو النتيجة الحتمية. وكلّما ازداد الصراع بين القطبين ازداد القلق وتضخم الألم، وربما كان عهدا المرابطين والموحدين خير ما يُمثل ذروة الصراع بين القطبين؛ ففي هذين العهدين أصبحت الأندلسي تابعة سياسياً للمغرب، بعد أن كانت مستقلة عنه وعن المشرق. وبذلك أصبح الفرد في هذا العهد رهناً لثنائيتين: الأولى بينه وبين المشرقي والأخرى بينه وبين المغربي. وبمقتضى قانون الفعل ورد الفعل يتطاول الشعور بالتفرد والتميّز رداً على الشعور بالتبعيّة، فيغدُو الصراع بين القطبين في أقصى حالاته، وبذلك تُصبح السمة الأساسية للفرد والمجتمع في هذا العهد هي: القلق.
وفي سبيل دراسة تلك الثنائية استعرنا مفهوم (التقاطبية) مِن كتابٍ لحسن بحراوي عن بنية الشكل الروائي(2)؛ لقدرة هذا المفهوم على فضِّ كثيرً من النزاعات، وحلِّ ما لغز منها، لأنه ليس قاصراً على دراسة المكان في الرواية، بل أداة تُستخدم كلّما احتيجَت. وإذا كان يُعين على فهم العلاقات بين عناصر الفضاء الروائي، فهو أيضاً قادرٌ على أن يمارس دوراً لا يقل أهمية عن ذلك؛ لأنه يحقق النظر إلى الحياة في الأندلس في صيرورتها الحركية لا في سكونها الخالي من الحياة، ففي المجتمع الأندلسي لا يمكن عزل الفرد عن إحساسه بسطوة المشرق؛ إذ لم يكن هذا الفرد قادراً على رسم ملامحه الخاصة ـ في أغلب الأحيان ـ بمعزلٍ عما هو عليه الأمر في المشرق، فكانت عينه على المشرق في أغلب مفردات حياته، يحتذيه حيناً، ويتمرّد عليه حيناً آخر، وبهذا كان المشرق بمنزلة الحافز المحرِّك لكثير من أفعال الأندلسي؛ فهو إن ألَّف كتاباً فإنما يؤلفه ليناظر به أهل المشرق أو ليفخر عليهم به. يقول أبو الوليد الحِمْيَري في مقدمة كتابه (البديع في وصف الربيع)، إن "أهل المشرق على تأليفهم لأشعارهم، وتثقيفهم لأخبارهم مذ تكلّمت العرب بكلامها، وشغلت بنثرها ونظامها إلى هلمّ جرّا، لا يجدون لأنفسهم من التشبيهات في هذه الموصوفات ما وجدته لأهل بلدي على كثرة ما سقط منها عن يدي بالغفلة التي ذكرتها عنها، وقلّة التهمُّم بها، وعلى قرب عهد الأندلس بمنتحلي الإسلام، فكيف بمنتخلي الكلام، ولو تأخروا عن إدراك المشرقيين في كل نحو وغرض، وتقهقروا عن لحاقهم في كل جوهر وعَرَض لكانوا أحقّاء بالتأخر، وأحرياء بالتقهقر. فكيف يُرى فضلهم وقد سُبقوا في أحسن المعاني مُجتلىً وأطيبها مُجتنىً، وهو الباب الذي تضمّنه هذا الكتاب، فلهم فيه من الاختراع الفائق، والابتداع الرائق وحسن التمثيل والتشبيه مالا يقوم أولئك مقامهم فيه"(3).
فأبو الوليد ما كتب الذي كتبه إلا وعينه على المشرق، ولولا ذلك ربّما ما خرج كتابه إلى النور. وهذا الفتح بن خاقان يقول عن كتابه: "وسمّيتها: (مطمح الأنفس ومسرح التأنس في مُلَح أهل الأندلس)، وأبقيتها لذوي الآداب ذكراً ولأهل الإحسان فخراً، يساجلون بها أهل العراق، ويحاسنون بمحاسنها الشمس عند الإشراق"(4). وجلي هنا أن الفتح بن خاقان يضع في ذهنه ـ وهو في سبيله إلى تأليف كتابه ـ مساجلةَ أهل المشرق به.
إذن، لا يوجد استقلال في كثير من سلوك الأندلسي، وهذا ما أشار إليه ابن بسام في ذخيرته حين رأى "أن أهل هذا الأفق أَبَوْا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب لَجَثْوا على هذا صنماً، وتَلَوْا ذلك كتاباً محكماً، وأخبارهم الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصيّة ومُناخ الرذيَّة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرَّف فيها لسان ولا يد"(5). وليبعد ابن بسام عن نفسه ما قد يُتّهم به من تحيّز إلى الأندلس أو رغبة عن المشرق، يُحيل الأمر إلى مشكلة الصراع بين الجديد والقديم محاولاً أن يُعلّل منطقية ما يدعو إليه من انصراف إلى الذات الأندلسية في ما تقدّمه من جديد؛ لأن للجديد طلاوة افتقدها القديم من كثرة تعاوره على الألسنة(6).
ولم يتوقف الأمر عند حد تأليف الكتب، بل تجاوزه إلى مظاهر السلوك الاجتماعي بين عامة الناس وخاصتهم، وإلى نُظُم الحكم أيضاً كإعلان الخلافة الأموية مقابلاً للخلافة العباسية.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في (المُعْجب) عن عبد الرحمن بن مُقَانا الأُشْبوني أنه مدح إدريس بن يحيى المسمّى بـ(العالي) بقوله:
يابني أحمدَ يا خيرَ الورى
لأَِبيكُم كانَ وفدُ المسلمينْ
نَزَلَ الوحيُ عليه فاحْتَبى
في الدُّجى فَوْقَهُمُ الروحُ الأمينْ
خُلِقُوا من ماءِ عَدْلٍ وتُقى
وجَميعُ الناسِ من ماءٍ وطينْ
انظُرونا نَقْتَبِس مِنْ نُوركمْ
إنَّهُ من نورِ ربِّ العالمينْ(7).
وكان من عادة الشعراء أن تمدحه من وراء حجاب تقليداً لطريقة بني العباس في المشرق، فعندما بلغ الشاعر قولـه (انظرونا نقتبس من نوركم) أمر إدريس حاجبه بكشف الحجاب. وهذا التقليد يدل على مبلغ تأثرهم بالمشارقة.
فلم يستطع الأندلسي، غالباً، أن يكون هو ذاته؛ لأنه يستند في جلِّ ما يفعله على ركيزة تُحدِّد له سابقاً اتجاهات حركته، هذه الركيزة هي التقاطبية بين الأندلس والمشرق، وما سلوك الفرد إلا نتاج لعلاقتهما، ولم يكن ليمتلك حرية الفعل خارج حدود هذه التقاطبية؛ لأن كثيراً من سلوكه ليس إلا ردود أفعال لما هو عليه الأمر في المشرق. ويختلف الأخذ بمفهوم التقاطبية مفتاحاً إلى فهم بنية السلوك الأندلسي عن القول بمحض تقليد الأندلسي للمشرقي، أو بمحض أندلسيته ومفارقته له؛ فالقول بالتقليد حكم قيمة سلبي لا ينظر إلى الحياة في حركتها الطبيعية، بل يجمدها ويأخذ منها ما يشاء بمعزل عن علاقاته بما حولـه. على حين يبدو القول بالتقاطبية أكثر قدرة على فهم الحياة الأندلسية، بما هي عليه من حركة؛ فهو ليس حكم قيمة، بل حالة وصف مطلقة، وهو محاولة لرد السبب إلى المسبب، والعلة إلى المعلول؛ فالأندلسي لا يقلد فقط، ولا يعارض فقط، ولا يستقل بأندلسيته فقط، بل هو تجادل ذلك كله.
نشأة التقاطبية:
تكمن المشكلة الأساسية لدى الأندلسي في أنه تتوزعه طريقان، طريق تأخذ بمجامعه نحو المشرق، وطريق تسير به إلى الأندلس، فقَدَمٌ على هذه وأخرى على تلك، لا هو بقادر على أن يحيد عن هذه إلى تلك، ولا هو بقادر على العكس، وليته استطاع أن يجمع بينهما بتوافق متّزن، بل كان جمعه إلى الفوضى أقرب منه إلى الاتساق؛ فقد ظنَّهما قطبين متضادين، ولذلك حاد عن الجادة، ولو أنه ضرب صفحاً عن اعتقاده بتضادهما، ونظر إليهما على أنهما متكاملتان لنجح في جمعه، ولاستوى عوده، ولكنه لم يفعل فمال قبل أن يستوي.
فما علّة اجتماع دافعي المشرقية والأندلسية لدى الفرد الأندلسي؟
المشرقية(:
هناك أسباب عديدة مهمة تتميز بقوة التأثير ووضوح المعالم وتجذُّر الوجود دفعت الأندلسيين إلى الإحساس بمشرقيتهم:
من ذلك أن المشرق أصلهم، وموطنهم، هم منه وإليه ينتسبون، منه ارتحلوا وإليه يحنون، وإذا صحَّ عدُّ عبد الرحمن الداخل رمزاً للأندلسيين في خوفه من العباسيين وهربه منهم وسعيه إلى منابذتهم وبحثه الدؤوب عن عزٍّ وحضارةٍ يقابلهم بهما ويعلن حياته ووجوده من خلالهما، إذا صحَّ ذلك له صحَّ أيضاً أن نعد الأبيات التي قالها في النخلة حين حنَّ إلى مرابع صباه رمزاً لصوت الحنين الدفين الذي يطَّوَّفُ في صدور الأندلسيين ويبحث عن مخرج:
يانخلُ أنتِ فريدةٌ مثلي
في الأرض، نائيةٌ عن الأهل
تبكي، وهل تبكي مكمَّمةٌ
عجماءُ لم تُجبَل على جَبْلي!
ولو أنها عقِلَت، إذاً لَبَكَت
ماءَ الفُراتِ ومنبتَ النخلِ
لكنها حُرمت، وأخرجَني
بُغضي بني العباسِ عن أهلي(9).
وأنَّى لرجل أن ينسى موطنه الذي نشأ فيه وشبَّ عن الطوق؟ وإن غلبه أمر على أن يهجره فإنما يحمله في صدره أينما حط عصا ترحاله، تستثيره الذكريات ويُهدهده الأمل. هذا هو عماد ما أحس به الأندلسيون تجاه المشرق؛ فهم منه ولكنهم بعيدون عنه.
ولعل هذا الحنين بدأ يفتر شيئاً فشيئاً منذ إعلان الخلافة، وراح الرجال يُنسَبون إلى أماكنهم من الأندلس كالمالَقي والسَرَقُسْطي والَبطَلْيَوْسي... الخ. بدلاً من نسبتهم إلى قبائل أو أماكن مشرقية.
وزاد من عمق هذا الإحساس أن المشرق عندهم بمثابة الهويَّة وتراث الأجداد؛ فهم إن قيل: عرب فإلى المشرق نسبتهم، وإن قيل: مسلمون فمن المشرق نشأتهم. ولا يربطهم مع المكان في الأندلس تاريخ مشترك، على حين تمتد جذور هذا التاريخ في كل ذرة من صحارى المشرق وسهوله.
ويبدو أن ما يُعرف عن إعجاب الأجيال اللاحقة بالأجيال السابقة قد أسهم في دفعهم إلى المشرقية(10)، إذ لا مستقبل بغير ماضٍ، ولا جدَّة بغيرِ قِدم؛ فاللاحق لا يستطيع أن يبدأ من فراغ، ولابد له من مُتّكأ وأساس يبدأ العمل عليه، فالحضارات تتكامل صيرورتها بحركة ماضيها الدافعة للحاضر والمستقبل. ولكي يكون المرء أميناً لانتمائه إلى أمته لابد له من ملامح مشتركة مع تراثه، تبرز هذه الملامح حين تنبض الحركة نحو المستقبل بروح الحضارة العامة تراثها وحاضرها، وبهذا التكامل تتشكل الهوية الخاصة بكل حضارة على وجه الأرض.
وبمناسبة الحديث عن الحضارات يبدو من الضروري الإشارة إلى أن المشرق هو مهد الحضارة الإسلامية، فيه خرج الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومن خلاله انتشر الدين الإسلامي إلى أقاصي الأرض، وفيه تشكّلت الخلافة الإسلامية بخلفائها الراشدين، ومنه انطلقت الفتوحات الإسلامية، وإليه ـ حيث الكعبة المشرّفة ـ تتوجّه كل يوم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهو، إذن، قبلة المصلّين، ومنبع الدين، ومحل الأماكن المقَّدسة التي يؤمها المسلمون طلباً للحج. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد فقط، بل كان المشرق أيضاً منبع الثقافة، ولذلك كثرت رحلتهم إليه؛ فمن الشرف عندهم أن يروي أحدهم عن شيوخ حواضر المشرق(11).
ولا يكون الشاعر شاعراً، إلا إذا قورن بصنوه في المشرق، فإذا جاء بما يعدله أو يفوقه كان له حق الريادة بين أهله، وإذا لم يستطع أن يفعل فلن يجد أذناً مصغية أو اعترافاً بحق. ولقد جرَّ هذا الأمر على الشعراء أذىً كبيراً؛ فلم يكن لِيَعْتَرف بفضلهم أو سبقهم؛ لأن الخاصة مقتنعون قبل العامة بأن الفضل يكاد يكون لأهل المشرق دون غيرهم، وكل من سواهم متطفّل على مائدتهم، غريب عنها، ولذلك كثرت معارضتهم لشعراء المشرق(12). وقد لخّص ابن حزم هذه المعاناة في رسالته عن فضل الأندلس، فقال: "إنها [الأندلس] خُصَّت من حسد أهلها للعالِم الظاهر فيهم الماهر منهم، واستقلالهم كثيراً ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبُّعهم سقطاته وعثراته، واكثر ذلك مدّة حياته، بأضعاف مافي سائر البلاد"(13). على أنه يجب ألا يغيب عن البال أن كلام ابن حزم هذا يحمل من الخصوصية الشيء الكثير؛ إذ للمحنة التي عصفت به آثار واضحة في أسطره، ولكنها تبقى دليلاً على موقف الأندلسيين من أدبائهم وعلمائهم في فترة من الفترات(14). وعلى موقفهم من المشرق وتقديسهم لثقافته وعلمائه. وقد رأى أحد الباحثين أن نظرة التقديس التي ينظر بها أهل الأندلس والمغرب إلى الشرق حقيقةٌ كانت وما تزال حتى اليوم، وسببها أنهم يرون المشرق نبعهم الأصيل، وماهم إلا فروعه في الثقافة واللغة خاصة.(15).
وهذا الحديث يقود إلى الكلام على اللغة العربية التي يعد المشرق منبعاً لها؛ فالأعرابُ الذين يُستشهد بكلامهم إنما هم من بواديه، وكتب اللغة البلاغية والنحوية إنما هي منه، وعليها تتلمذ الأندلسيون، مثل (الكتاب) لسيبويه، أو كتب الكسائي(16). ولقد غالى بعضهم في حديثه عن اللغة العربية في الأندلس حين وصفها بالبداوة، والخيال، وجزالة العبارة، وسلامة التركيب والإعراب، وفخامة الألفاظ، والجرس وحلاوة الموسيقا، وأنها ما داخلها الضعف ولا شابها دخيل أو عجمة، بحجة أن الذين هاجروا إليها كانوا بداة غيورين على اللغة(17). فهذا الكلام يخالف ما ذكره المقرّي نقلاً عن ابن سعيد في (المغرب) حين قال: "كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي، المشار إليه بعلم النحو في عصرنا، الذي غرَّبت تصانيفه وشرَّقت، وهو يُقرئ درسه لضحك بملء فيهِ من شدّة التحريف الذي في لسانه، والخاص منهم إذا تكلّم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه، لكن ذلك مراعىً عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل"(18).
وليس بعيداً عن الحقيقة في شيء القول إن الأندلسي كان يدين بالولاء للمشرق بحكم التبعيَّة له؛ فالأندلس ـ وإن أعلنت الخلافة في عهد من عهودها ـ ليست إلا إقليماً من الأقاليم الإسلامية؛ وولاية من ولايات المشرق الإسلامي، فتحها المسلمون القادمون من هناك لنشر دين الله بين ربوعها، ومنذ ذلك الحين ما استطاعت أن تخرج عن حدود هذه الولاية، لأنه خرج غير مستطاع، وليس من سبيل للوصول إليه، ولذلك كان التأثر بالمشرق هو تأثر الفرع بالأصل، ومن الطبيعي أن يتم هذا التأثر والتأثير؛ لأن فاتحي الأندلس مشرقيون، وثقافتهم مشرقية، ولغتهم العربية هي لغة أهل المشرق فكيف لا تكون حياتهم مطبوعة بطابع المشرق؟ (19). وهذا الولاء ولاء طبيعي تفرضه طبيعة الحضارة الإسلامية التي امتدَّت أقاليمها شرقاً وغرباً، ولكنَّ الأندلسيين أبَوْا إلا أن ينظروا إلى الأمر على أنه صورة لغالب ومغلوب، فاتصف كثير من أفعالهم بملامح من هذا التصور؛ فديدن المغلوب تقليد الغالب أو معارضته في سائر أحواله كالملبس والمأكل وغيرهما؛ لاعتقاد النفس بكمال من غلبها(20).
وهم فضلاً عن محاولاتهم تقليد المشارقة كانوا يقرّون بضعفهم أمامهم وقلة حيلتهم معهم، فمن ذلك ما ورد في رسالة كتبها أبو المطرِّف بن مُثنى رداً على رسالة بعثها إليه أحد المشارقة؛ وفيها يقارن أبو المطرِّف بين الأندلسيين والمشرقيين فيقول: "وكيف نجاريهم، وإنما نحكيهم! وهل نحن ـ أهل هذه الجزيرة النائية عن خيار الأمم، المجاورة لجماهير العجم ـ إلا أجدر البريَّة باللكن وأولاها بعدم الفطن، وأخلقها بالخَرَس، وأحقّها بغلظ الحس؟! فلم يقرع سمع ابنٍ من أبناء خاصّتنا عند ميلاده، ولا خامر طبع الرضيع منهم في مهده إلا كلام أَمَةٍ وكعاء أعجمية خرقاء، ولا ارتضع إلا ثديها، ولا اكتسب إلا عيّها، ولا سكن إلا في حجرها، ولا مَرَنَ إلا بتدبيرها، حتى إذا صار في عديد الرجال، وانتهى إلى حدود الكمال باشر طوائف النصرانية فخاطبهم بألسنتهم، وجدَّ في حفظ لغتهم، وعانى طباقهم، وكابد أخلاقهم، أفليسَ الذكاء مع هذا أبعد من ذُكاء عنه؟ وأما العامة منّا فقد انقطع فيها المقال، وصحّت المخيّلة والخال"(21).
ففي النص اعتراف بالضعف للأندلسي والقوّة للمشرقي، وهذا أمر غريب؛ لأن كاتبه توفي في زمن(22) يفترض فيه أن الشعور بالأندلسية قد استطال عما كان عليه بادئ أمره. وهذا ليس رأي رجل واحد فقط، فثمة أدلة كثيرة تعضد هذا الأمر، منها أبيات قالها ابن جُبَيْر، وهو أندلسي، يُفضِّل فيها المشرق على
المغرب:
لا يستوي شرقُ البلادِ وغربُها
الشرقُ حازَ الفضل باستحقاقِ
اِنظر لِحَالِ الشمسِ عند طلوعِها
زهراءُ تصحب بهْجَة الإشراق
وانظر لها عند الغروبِ كئيبةً
صفراءُ تُعْقِبُ ظُلْمةَ الآفاق
وكفى بيومِ طلوعِها من غربِها
أن تؤذِنَ الدُّنيا بوِشْكِ فراقِ(23).
وتُبْرزِ هذه الأمثلة بجلاء موقف الأندلسي من المشرق، وهو موقف غريب، خارج عن حدّه الطبيعي؛ فلو أن الأندلسي ترك الأمور تسير على طبائعها إذن لكانت حاله حال المسلمين في الأقاليم الأخرى كمصر وخراسان وغيرهما، ولكنه غالى في شعوره بضعفه وتبعيَّته إلى المشرق حين ظنَّ الأمر صراعاً بين غالب ومغلوب، فألجأ الدارسين إلى القول بتقليده له، على حين أن الأمر كله لا يعدو أن يكون اتكاء الفرع على أصله والابن على أبيه. و"لو لم يكن التقليد مقصوداً لكان التشبيه أيضاً محتوماً"
(24). وما ذاك إلا لأنهما (المشرقي والأندلسي) ينتميان إلى حضارة مشتركة.
الأندلسية(25)
إن عزل الأندلسية عن المشرقية ليس بسبب تتاليهما تاريخياً، ولا يراد به أنهما منفصلتان؛ فالشعور بالمشرقية واكب الأندلسية خطوة خطوة، إن قوي الإحساس بهذا ضعُفت تلك، وإن ضعفت هذه قويت تلك، وهذا الفصل إنما هو للتسهيل الدرسي فقط.
لعلنا لا نعدو الحقيقة في شيء إذا قلنا: إن الأندلسية بدأت تخطّ أسطرها الأولى منذ وصول عبد الرحمن الداخل الذي حمل معه شعوراً غالباً بعزة النفس ورغبة في الاستقلال وإرادة قويّة في بناء مملكة توازي الممالك العباسية أو تفوقها، فشرع يبني مملكته حجرة حجرة، وكان له ما أراد، ففرض السطوة والأمن، وأخضع الأطراف المتمرِّدة، وقضى على الثورات والفتن، وانتقلت رغبته في الاستقلال إلى الأمراء الأمويين من بعده فتطاولوا في البنيان وشيَّدوا المساجد، وشجعوا الأدب والأدباء بالعطايا والهبات، تحدوهم الرغبة في ألا يكونوا ذيلاً للعباسيين. ولقد كانت هذه الروح كفيلة بإيقاظ الشعور بالخصوصية بله التفرّد؛ فقد أحس الفرد الأندلسي أنه ينتمي إلى مجتمع يسعى ما استطاع إلى أن يُثبت تفوّقه على المشرق. وهو سعيٌ يُمثِّل حرص الأمويين على إثبات القوّة أمام العباسيين، ولذلك كان أمراؤهم حريصين على سبق العباسيين في جمع وسائل النهضة لدولتهم في مختلف المجالات. وربما كان سرّ ذلك أن الأمويين يريدون أن يفهم الناس أنهم هم الأمل المرتجى؛ لتتعلَّقَ بهم القلوب حين ينقطع رجاؤها في الخلافة العباسية ا لتي يترقّبون زوالها(26). ولعله من البدهي أن نقول: إن هذا الخلاف السياسي بين الدولتين كان يستند إلى تباين (ايديولوجي) عميق بينهما يعود إلى اختلافهما حول إمامة المسلمين.
غير أن هذا السباق لم يقتصر على القادة فقط، إذ سرعان ما تشربته عامة الناس وخاصتهم، فأصبح التنافس مع المشارقة ديدنهم الذي ما فتئ يغزل لهم كل سلوك أو قول؛ ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم ليسوا تبعاً لأحد، وإنما هم السابقون.
ومما أزكى فتيل التنافس إعلان الخلافة من عبد الرحمن الناصر؛ فهذا يعني أن الشعور بالاستقلال لم يعد كافياً لإرضاء الأمويين، فأعلنوه رسمياً وعلى الملأ غير هيّابين أو خائفين؛ فبغداد في حال لا تسمح بحربهم. وهكذا استطال الشعور بالأندلسية، ولم يعد الفرد ينتمي لإمارة عباسية بل لخلافة أموية مستقلة.
ولقد عمل الأمراء بما عرفوا به من بُعد الهمّة على أن تكون الأندلس مركزاً ثقافياً مرموقاً بين البلاد التي تجاورها، فحرصوا على العلماء وتنافسوا في اقتناء الكتب والمكتبات. حتى إن الحكم الثاني: "كان له في القاهرة وبغداد ودمشق والاسكندرية عمال مكلّفون باستنساخ كل الكتب القيّمة قديمة كانت أو حديثة، وكان قصره حافلاً بالكتب وأهلها حتى بدا وكأنه مصنع لا يُرى فيه إلا نسّاخون ومجلّدون ومزخرفون يحلون الكتب بالمنمنمات والرسوم الجميلة"(27)، فتهيأت للأندلس بذلك شروط الاستقلال المعنوي. ويبدو أن هذا الشعور بالرغبة في التميّز على المشارقة قد أدركه بعض الشعراء فراحوا يلمِّحون إليه في شعرهم، ولأبي العَلاء صاعِد بيتان في المنصور بن أبي عامر يشير فيهما إلى تفضيله المنصور على ملوك المشرق كافة:
إليك حدوتُ ناجية الرِّكابِ
محمَّلة أماني كالهضابِ
وبعتُ ملوكَ أهلِ الشرقِ طرّاً
بواحدها وسيِّدها اللبابِ(28).
ولعل لموقف الاستصغار الذي وقفه المشارقة من الأندلسيين كبير أثرٍ في إثارة الغضب للكرامة الجماعية والاعتداد بالأندلسية، فقد تُنوقلت أخبار كثيرة عن استحسان المشارقة لأشعار أهلهم دون غيرها، فمن ذلك أن سعيد بن أحمد لما رحل إلى مصر لقيه بعض الأدباء، واستنشده لأهل الأندلس فأنشده، فعلّق المصري بأن شعر أهل المشرق أجمل من شعر أهل الأندلس، فأراد سعيد أن يمتحنه فقال لـه: صدقت، فكيف لنا أن نقول مثل قصيدة أبي نواس، وذكر له أبياتاً ليحيى الغزال الأندلسي، فظنها المصري لأبي نواس فطار بها فرحاً، فلما طالت بها سعادته أطلعه سعيد على حقيقتها، وأنه أراد بذلك امتحانه، فخجل(29). وقد علّق صاحب (المُطرِب) على هذه الحادثة بقوله: "وهذا الشعر لو رُوي لعمر بن أبي ربيعة، أو لبشار بن برد، أو لعباس بن الأحنف، ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لاستُغرب له، وإنما أوجب أن يكون ذكره منسياً أن كان أندلسياً، وإلا فما له أُهمل، وما حقَّ مثل أن يُهمل.. وهل نحن إلا نُظلم في حقنا ونُهتضم!... ياللهِ لأهل المشرق! قولة غاصٍّ بها شَرِق. ألا نَظَروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، وأقصروا عن استهجان الكريم الهِجان، ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان. لئن أرهَفت بصائَرهم البصرةُ وأرقّتها الرّقّتان، فقد درجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان فإن منهما مخرج اللؤلؤ والمرجان"(30). ويظهر من هذا التعليق أن صاحبه يضيق بموقف المشارقة من الأندلسيين، ولا يرى فيه سلوكاً فردياً خاصاً، بل موقفاً جماعياً، وهذا الأمر ولّد لدى الأندلسيين ردة فعل قويّة جعلتهم في أحايين كثيرة يفضلون أدبهم وعلمهم على المشارقة؛(31). وما ذاك إلا لإعادة التوازن إلى شعورهم الجماعي الذي كان يرفض موقف المشارقة ويرى فيه خروجاً عن جادة الحق. وإذا كان لأحد ـ كما يبدو من كلام صاحب (المُطرِب) ـ أن يفخر على آخر فإنما ذلك حقّ الأندلسي على المشرقي؛ لأنه بحكم الأصل مشرقي، ولكنه يزيد عليه بوجوه مختلفة، ولذلك هو مشرقي وزيادة. ولقد دفع هذا الموقف المشرقي تجاه الأندلسيين ابنَ سعيد إلى تأليف كتاب في المناظرة بين المشرق والمغرب، وقال عن ذلك: "والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتاباً وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك من شدة إنحاء المشارقة على المغاربة من كل جهة"(32).
ولعل مما أسهم في إزكاء إحساس الأندلسي بالتفوّق على المشرقي ما حباه الله به من طبيعة غنية ساحرة. كما أن جهاده المستمر في سبيل الله ـ بسبب تماسه المباشر مع حدود الأعداء ـ جعله يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه حامي حمى الدين ورافع راية الإسلام(33). ولاختلاف البيئة الأندلسية عن المشرقية دور كبير في إزكاء الخصوصية؛ لأنها تعني تغيراً في طرائق الحياة وملامح الخلق. وإذا أضفنا إلى ذلك الاختلاط بالجيران من الأمم الأخرى وما له من تأثير أدركنا البعدَ الحقيقي لأثر اختلاف البيئة. وأكثر ما تُلتمس مظاهر تغير البيئة في الأمثال، لأن المثل شديد الالتصاق بتفاصيل الحياة اليومية، ولذلك كان الأقدر على عكسها بين ثناياه. ومن ينظر إلى الأمثال الشائعة في الأندلس يستطيع أن يلتمس بسهولة خصوصيتها وتميّز كثير منها عما هو شائع في المشرق(34).
وكان عهد ملوك الطوائف عهد نعمة على الأدب والأدباء، ولم تكن الصورة السياسية للأندلس المجزَّأة لتعكس صورة الأدب فيها؛ فقد كان في تفرُّق ملوك الطوائف ـ كما يرى الشَّقُنْدي ـ كبير فضل على العلماء: "إذ نفّقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظور، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بَذَلَ وُسْعَه في المكارم، ونَّبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم... ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهاديَ النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البرّاض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافساتهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمئة دينار"(35). فانعكس هذا المناخ الثقافي إيجاباً على شعور الأندلسي بذاته، فتقدّمت الأندلسية خطوات إلى الأمام(36).
ولقد برزت الأندلسية بقوّة في عهدي المرابطين و الموحدين؛ لأن الضغوط التي حلّت بالأندلسي كانت كبيرة، فكان رد فعله كبيراً أيضاً؛ فبعد أن كان يشعر بالاستصغار من المشارقة فقط أصبح الآن يشعر به من المغاربة أيضاً، وعليه، إذن، أن يحارب (حرباً معنوية) على الجبهتين معاً. حتى إن مجالس خاصة كانت تعقد للتفاضل بين أهل الأندلس وأهل المغرب، وقصة رسالة الشَّقُنْدِي شهيرة في هذا الباب.
وقد كان لشعور الأندلسي بعودة التبعيَّة وفقدان الاستقلال كبير أثر في نفسه، فبعد أن كانت الأندلس مملكة قائمة بذاتها غير تابعة سياسياً لأحد أصبحت فجأة ولاية من ولايات المغرب يسوسها قوم من غير أهلها. كل ذلك كان يدفع الأندلسي إلى أن يبحث عن أندلسيته، وينافح عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولعل إدراك ذلك يبدو واضحاً إذا عُلم أن أهم المؤلفات الأدبية التي دافعت عن الأندلسية وحاولت إبرازها إنما كتب معظمها في عهدي المرابطين والموحدين، (كالذخيرة)، و(المطرب) ورسالة الشَّقُنْدِي... الخ.
ولابد من الإشارة إلى أنه في عهدي المرابطين والموحدين، ظهرت ثنائية جديدة تشبه تلك التي بين المشرق والأندلس، وقطباها المغرب والأندلس، ولكنها تختلف عن سابقتها في أننا لا نستطيع أن نقول بأن ثمة شعوراً بالمغربية يجذب الفرد نحو المغرب، وإنما هي تبعية المغلوب، للغالب. وإن كان ثمة تقليد فمن زاوية الغلبة فقط، كتقليد الأندلسيين للمرابطين في لبس اللثام(37). كما تختلف هذه الثنائية في أن التقليد فيها لا يُقَارنَ بالمعارضة والتميز والتنافس. غير أننا لا نستطيع أن نُهمل الإشارة إلى هذه الثنائية لأنها تُعَزِّز مقولة التقاطبية في الذهنية الأندلسية.
الأندلسية، إذن، مطلب لا مهرب منه، لاحقت أفرادها منذ أن وطئت أقدامهم شبه الجزيرة الإيبيرية، واشتد عودها شيئاً فشيئاً حتى لم يُستطع الهرب يوماً من ربقتها، بل لقد غدت هي المطلب والخيار الوحيد للبقاء بقوّة.
وهكذا تأكَّدَ مما سبق خضوعُ الأندلسي لقوّتين تتجاذبانه: مشرقيَّته وأندلسيَّته، وتبيّنت أيضاً علّة هذا التجاذب وتجذّره في واقعه، فالأندلسي ما استطاع أبداً أن ينفك عن إحداهما إلى الأخرى؛ لأن ثمة عوامل قوية تشدّه إليهما معاً في آن واحد، أهمها: الانتماء الإسلامي؛ والانتماء العربي، والانتماء اللغوي، وكون الأندلس أولاً وأخيراً ولاية عربية إسلامية كغيرها من الولايات، شاء ذلك الأندلسيُّ أم أبى، وهذا كله يؤكد أن نظم حياة الأندلسي وسلوكه ونتاجه الأدبي لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن التقاطبية التي تحركه.
ولقد سبق أن أشار عبد الله بن ثقفان إلى أن هنالك تجاوراً بين الانتماء المشرقي والانتماء الأندلسي، ولكنه أرجع هذا التجاور إلى ما أسماه أدب القوّة (المشرقي) الذي يكون دائماً أساساً لأدب المعرفة (الأندلسي)(38). وقد تحدث أيضاً أحمد صلاحية عن تجاور تياري المشرقية والأندلسية في الأندلس بدرجات متفاوتة بين كل عصر، ولكنه اكتفى بالبحث عن ملامح ذلك في الشعر(39). وما نقول به يختلف عن الدراستين السابقتين في أنه لا يكتفي بسرد ملامح المشرقية والأندلسية، بل يسعى من خلال ذلك إلى القول بأن هذين الملمحين أسهما في تشكيل ذهنية جماعية أندلسية أو عقلية جماعية أندلسية خاصة قائمة على التقاطبية، من غير أن نبالغ في تقدير ذلك، إذ لا نرى أن هذه العقلية تجعل الأندلسي شاذاً عن أقرانه من أبناء الحضارة الإسلامية بقدر ما تمنحه درجة معيّنة من الخصوصية. فكل مافي الأمر أننا نعتقد أن التقاطبية طريقة في التفكير وفي الحياة فرضت ظلالها على المجتمع الأندلسي بمناحيه المختلفة.
مزايا القول بالتقاطبية:
إن القول بالتقاطبية، يفيد من وجوه متعدِّدة؛ فهو من جهة يرد على بعض المقولات الخاطئة التي وُصم بها الأندلسي، ومن جهة أخرى يُعد مفتاحاً حقيقياً لفهم تركيبة سلوك الفرد الأندلسي؛ لأن التقاطبية أسْهمَت في تشكيلها على صورة خاصة.
أما المقولات الخاطئة التي تردها التقاطبية فنجملها فيما يلي:
ينتشر في كتب الدارسين اتهام الأندلسي بعقدة النقص تجاه المشرقي، كأن يقول أحدهم متسائلاً: هل كان الأندلسيّون "يشعرون بعقدة النقص تجاه أدبائهم عند مقارنتهم بالمشارقة، فكانوا لا يعترفون بأدبائهم مالم يُظهروا من البراعة و الذكاء ما يجعلهم يتفوّقون على المشارقة؟... [ويُجيب]:... إن العقدة موجودة وينبغي أن تكون موجودة من الناحية العلمية للأسباب النفسية الموروثة المتأصّلة عبر التاريخ العربي في الأندلس"(40). ويقول آخر: "على أن من أهم خصائص الأندلسيين من الناحية النفسية ذلك الإحساس الذي يكاد يكون مركب نقص عاناه الأندلسيون بسبب وضعهم من المشارقة"(41). ويظهر من المثال الثاني أن صاحبه لا يريد أن يجزم بوجود مركب النقص هذا، ولذلك يستخدم الفعل (يكاد) غير أن الشاهدين ينظران إلى تطلع الأندلسي نحو المشرقي بعين النقص، فماذا يعني هذا الاتهام؟... جاء في تعريف عقدة النقص أنها تشمل: "كل ما للشخصية من أعراض تُشعر بأن الشخص غير واثق من نفسه، وأنه يرزح تحت عبء إحساسٍ بالضعف والقصور والتخاذل"(42)، فهل كان الأندلسي في كل حياته يرزح تحت وطأة الإحساس بالنقص أمام المشرقي؟ لقد مرَّ سابقاً أن الأندلسي تجاذبته قوتان: (مشرقيّته وأندلسيّته)، وأنه ما مضى عليه حين من الدهر، لم يكن فيه مشدوداً إليهما معاً. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نسلّم لمن يتّهمه بعقدة النقص؛ لأنه كان يشعر بتبعيته للمشرق وبتفرّده في آن واحد. فهو لم يكن (غير واثق بنفسه)، بل ربما كانت ثقته الزائدة وطموحه العالي من الأسباب التي دفعته إلى البحث عن فرادته وتميّزه أمام أقرانه من المشارقة.
ولعل معترضاً يقول: إن إحساس الأندلسي بتفرده كان مجرّد رد فعل تجاه شعوره بالنقص أمام المشرقي، وبالتالي يصبح الاعتماد على التفرد لرد القول بعقدة النقص باطلاً! ولكن.. لم يكن مبعث الإحساس بالتفرد مديناً لأسباب خارجة عن طبيعة المجتمع الأندلسي، بل ثمة أسباب داخلية كفلت له التنامي، كالبيئة، والجيران، والجغرافية، واختلاف الولاء للخلافة، والعادات المختلفة... الخ. وهذا لا يعني نفياً للسلوك الذي ظنه الدارسون ضعفاً، بل محاولة لوصف الأشياء بما هي عليه حقاً؛ فسلوك التقليد قائم، ولكن ليس مردّه الضعف فقط، وإنما التقاطبية التي ما فتئت تجذب الفرد نحو قطبيها: المشرق والأندلس. وليس من الموضوعية في شيء أن يُنعت تطلع الأندلسي إلى المشارقة بالنقص؛ لأن هذا التطلع وهذا التقليد لا يخرجان عن كونهما سلوكاً طبيعياً يؤديه الفرد بحق تراثه وأصله. فالقول بمحض النقص، إذن، لا يعترف إلا بنصف الحقيقة، أما القول بالتقاطبية فيجمع نصفي الحقيقة، وينظر إلى الحياة في سيرورتها الحيّة المتشعِّبة. وهذا الكلام يقود حتماً إلى نفي التقليد لدى الأندلسيين؛ فلم يكن الأدب أو السلوك الاجتماعي والسياسي تكراراً لمثيله المشرقي كما رأى بعضهم (43)؛ فهذا نصف الحقيقة أيضاً، ولابد كي تكتمل الحقيقة من الاعتراف بخطوات الأندلسي الوئيدة والنشطة تجاه أندلسيته، تلك الخطوات التي ما لبثت أن تسارعت واستطالت.
وليس من العلمية في شيء أيضاً أن نُغمض الأعين عما يربط الأندلسي بالمشرق من جذور حضارية وثقافية، ولا نرى في بحثه عن التفرُّد إلا سعياً نحو ملامح قومية إسبانية، فهذا بخلاف الحقيقة، وإن اعتقده غير واحد من المستشرقين والعرب(44)؛ فلا مجال للتغافل عن عُروبة الأندلسيين الإسلامية، تلك التي تفرض ظلالها في شتى مجالي الحياة الاجتماعية واللغوية والثقافية والحضارية.(45).
ومن مزايا التقاطبية أنها تُستخدم مفتاحاً لفهم التركيبة النفسية للأندلسي؛ سرُّ ذلك أن التقاطبية هي الأساس الذي صدرت عنه هذه التركيبة. ولن يُستطاع فهم النفسية الأندلسية، بما هي عليه، بمعزل عنها؛ وإِن أُغفِلَت فلن نرى في سلوك الأندلسي وحدةً ما أو عاملاً مشتركاً أو تناسقاً، بل سنراه ضرباً من الفوضى التي لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط. فقد شاع بين الدارسين اتهام الأندلسي بالتناقض في سلوكه:
(46) بين التعصب والتسامح، بين التمرد والتبعية، بين العزة والدونية، مستندين في ذلك إلى المظاهر الخارجية لسلوكه العام، ولكن لو نُظر إلى هذا السلوك بعين التقاطبية فسيتم الوصول إلى العلة الحقيقية له؛ لأنه يمكن حينها رد كل سلوك إلى دافعه وأصله. ولإثبات ذلك سنناقش أهم مظاهر التناقض التي تتجلى في وجهي الأندلسي: المتميِّز والتابع.
فمن مظاهر الوجه المتميّز: تقصُّد التميّز لدى الأندلسيين، يقول صاحب النفح: "وأما حال أهل الأندلس في فنون العلم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميُّز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميّز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً
عالة على الناس، لأن هذا عندهم في غاية القبح"(47).
ومن مظاهره أيضاً حرصهم الشديد على النظافة؛ فأهل الأندلس: "أشدُّ خلق الله اعتناءً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلّق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومَه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها".(48)
وأهم من ذينك تفردهم في لبس البياض في الحزن، وهو أمر يخالف ما عرف عن سواهم من سائر الأقطار(49). يقول في ذلك ابن شَاطر السَّرَقُسْطِي:
قد كنتُ لا أدري لأَيّةِ علّةٍ
صارَ البياضُ لباسَ كلَِّ مُصابِ
حتى كساني الدهرُ سحْقَ ملاءةٍ
بيضاءَ من شيبي لفقدِ شبابي
فلذا تبيَّن لي إصابةُ من رأى
لبس البياضِ على نوى الأحبابِ(50)
وقال أحدهم في الأمر نفسه:
ألا يا أهلَ أندلسٍ فَطنتُمْ
بِلُطْفِكُمُ إلى أمرٍ عجيبِ
لبستُمْ في مآتِمِكُمْ بياضاً
فجئتم منهُ في زيٍّ غريبِ
صدقتُمْ فالبياضُ لباسُ حزنٍ
ولا حزنٌ أشدُّ من المشيبِ(51).
وهذه كلّها مظاهر تدل في مجملها على قصد واضح للتميّز.
أما مظاهر التبعية فأهمها التقليد، وهو ما عُرف به الأندلسيون تجاه المشارقة حيناً ثم تجاه المغاربة في عهدي المرابطين والموحدين حيناً آخر، وقد مرّت سابقاً أمثلة تدل على ذلك.
إن هذه المظاهر المختلفة من التميّز والتبعية هي التي دفعت الدارسين إلى اتهام الأندلسي بالتناقض، على حين أن الأمر ليس كذلك أبداً. فهي إن دُرست من زاوية التقاطبية وُجِدَ أنّه ليس من تناقض، بل تجادل، ولا مناص من الاعتراف بتوازي خطّي (التفرّد) و(التبعيّة) لدى الأندلسي؛ فقطبه الأول (الأندلسية) هو الذي يدفعه إلى التميّز والبحث عن التفرّد، كمظاهر التميّز والنظافة ولبس الأبيض في الحزن للمخالفة. وقطبه الآخر (المشرقية) هو الذي يدفعه إلى التقليد والتبعية. فليس من تناقض، وإنما هي صيرورة الحياة الخاصة بالأندلس، تلك الحياة يجب أن يُنظر إليها ضمن صفاتها الخاصة بها.
ولم يبق الأمر على هذه الدرجة من البساطة التي يوحي بها؛ فالقطبية بين الأندلسية والمشرقية، بين التفرد والتبعية، سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه الصراع؛ إذ تَطوَّرَ هذان القطبان إلى قوّتين جاذبتين تسعيان بكل طاقتهما إلى فرض ظلالهما على مجمل السلوك الأندلسي، فظهر بذلك ما دُعي بظاهرة التطرف
(52). فَتَطوُّرُ التجادل بين قوتي التفرد والتبعية هو الذي خلق هذا التطرف؛ لأن الفرد أصبح محكوماً بهما بشكل غير واعٍ؛ هذه تحاول فرض هيمنتها بالمغالاة في مظاهرها، وتلك تُبادلها السعي ذاته. ولذلك نرى تمسُّك الأندلسيين بمذهب الإمام مالك يأخذ شكلاً عَصَبِياً شديداً. ومردّ ذلك لا يعود إلى ما قيل عن مدح الإمام مالك لهشام بن عبد الملك فقط(53)؛ فهذا المدح ربما كان سبباً مبدئياً في نشر المذهب، ولكن الذي دفع الأندلسيين إلى التمسّك به بشدّة هو قوّة التفرّد التي ما فتئت تنفخ في نارهم وتحتطب لها؛ لتغلب قرينتها؛ فقد رأى الأندلسيّون في تمسّكهم بهذا المذهب خصوصية يسعون جاهدين إليها. وما عُرِفَ عن ترخّصهم في اللهو والمجون إنما مردّه قوة التبعيّة التي تحاول جاهدة أن تبذ قرينتها وتخفِّف من أوارها؛ إذ التبعيّة تعني تكرار ما يفعله الغير و تقليده، وهذا التقليد يشبه الموت؛ إذ لا حياةَ فيهِ لأن لا جدّة فيه. كما أن التقليد يعني نسياناً لفردية الذات، بل نسياناً للذات كلها. واللهو والمجون مظهران مهمّان لهذا النسيان ومن هذه الزاوية أصبح الترخص فيهما مظهراً من مظاهر قوّة التبعية.
وإذا أخذنا بعين التقدير هاتين القوّتين استطعنا أن ندرس السلوك الأندلسي على ضوئهما، لنفهم دوافعه الحقيقية ومساراته التي يسير بها؛ إذ لا يكفي أن ندرس الذات الأندلسية من زاوية واحدة، كالتفرّد وحده، أو التبعيّة وحدها(54).
نتائجها:
لعل القلق أن يكون من أهم ما أفرزته التقاطبية على المجتمع الأندلسي، فهو بحق آفة العصر التي عانى منها الأندلسيون أفراداً وجماعات، فالأندلسي مُقَيَّد بقوّتين متضادّتين، اختارهما بمحض إرادته ولم تفرضا عليه من الخارج، ولا يستطيع الاستغناء عن أيٍّ منهما، بل يطلبهما معاً، على الرغم من اعتقاده بتضادهما وعدم اجتماعهما معاً. ولذلك ينتابه إحساس دائم بعدم الرضى لأنه يشعر بأن المراد شيء والواقع الحاصل شيء آخر تماماً وهذا الأمر مستمر باستمرار الصراع بين مظاهر القوّتين المتضادتين، كالصراع بين: الشعور بالتبعية للمشرق أو المغرب مع الرغبة بالتفرد والتمّيز، وكذلك الحرص الشديد على مظاهر الدين مع الغرق في المجون واللهو.
وكأننا أمام صراع للبحث عن إجابة للسؤال الجديد القديم: أكون أو لا أكون؟ ولكن الأندلسيين بقوا مترجّحين بين حدَّي السؤال، لا إلى أولئك ولا إلى هؤلاء. وقد ولّد ذلك كله القلق والاضطراب؛ القلق الذي لا يجعل للسكينة مكاناً في القلب، والاضطراب الذي لا يمنح فرصة للاستقرار. ومع الاثنين يكون الألم هو النتيجة الحتمية. وكلّما ازداد الصراع بين القطبين ازداد القلق وتضخم الألم، وربما كان عهدا المرابطين والموحدين خير ما يُمثل ذروة الصراع بين القطبين؛ ففي هذين العهدين أصبحت الأندلسي تابعة سياسياً للمغرب، بعد أن كانت مستقلة عنه وعن المشرق. وبذلك أصبح الفرد في هذا العهد رهناً لثنائيتين: الأولى بينه وبين المشرقي والأخرى بينه وبين المغربي. وبمقتضى قانون الفعل ورد الفعل يتطاول الشعور بالتفرد والتميّز رداً على الشعور بالتبعيّة، فيغدُو الصراع بين القطبين في أقصى حالاته، وبذلك تُصبح السمة الأساسية للفرد والمجتمع في هذا العهد هي: القلق.
Admin- المدير
- عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 13/08/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 16, 2012 1:52 am من طرف Admin
» توبة التائبين
السبت يناير 28, 2012 1:28 am من طرف Admin
» الحماسة في الشعر العربي
السبت يناير 28, 2012 1:26 am من طرف Admin
» Windows Live Messenger 2012
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:29 am من طرف Admin
» الفيلم الدرامي الرائع هليوبوليس
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:14 am من طرف Admin
» ولاد البلد
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:09 am من طرف Admin
» دراسة في شعر الحماسة
الأحد نوفمبر 20, 2011 6:13 am من طرف Admin
» كلام من نور
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:28 am من طرف Admin
» يا رب استجب
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:25 am من طرف Admin