أوقات الصلاة
التقويم القمري
ساعة ماوس
اذاعة القران الكريم
أذكار الصباح والمساء
جبرا إبراهيم جبرا..أصداء السيرة الذاتية
صفحة 1 من اصل 1
جبرا إبراهيم جبرا..أصداء السيرة الذاتية
مدخل:
يعيش الإنسان وفي أعماقه شيء من الخوف والحذر المتواصل الذي يتردّد طويلاً في الكشف عنه، لأن النفس الإنسانية تسمو بمشاعرها وتهبط، وتخفي أسرارها بصورةٍ عامة، وتبدي، وكتّاب السيرة الذاتية كغيرهم يبدون ما يودّون إظهاره، أما خصوصية الخاص فيظل مخفياً في السريرة لا يدري به سوى صاحبه، ولكنهم ربما يكونون أكثر شجاعة من غيرهم حين يمتلك أحدهم الشجاعة والقدرة على البوح، غير عابئ بما يترتّب على بوحه من عواقب، بسبب ما يحفّ بهذا الجنس الأدبي من مخاطر تقتضيها طبيعة البوح والاعتراف، والتخلّص من الأهواء والنزعات الشخصية، إضافة إلى أن بعض الأحداث التي يرويها الكاتب عن نفسه بتجرّدٍ، يمكن أن تعصف بقدرته على وزن الأشياء، وتقويم الأمور بصورة صحيحة.
والأديب حين يكتب سيرته الذاتية مدفوعاً بشغف الإبداع، فإنه لا يتوقّف عند المكوّنات الثقافية الأولى، ولا عند الغبطة المبدئية لوهج الكتابة، وإنما يمضي إلى أبعد من ذلك، فيكاشف أغلب السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أثّرت في شخصيته وثقافته وإبداعه، بدءاً من نشأته وتعليمه واختلافه إلى أماكن اللعب واللهو، وحتى الصبابة و الحب والشباب والكهولة.. إنه يحدّد صفحات مختلفة من السيرة المكانية / الزمانية للواقع، ويضع في خلفية سيرته الذاتية هذه الصفحات لتؤكّد على الهوية والانتماء والعلاقات الاجتماعية والفكرية، وعلى الكينونة المميّزة لسيرته في الحيّز الذي عاش فيه واستوحى منه، والزمن الذي شهد إبداعه.
وعلى ذلك فالسيرة الذاتية تعدّ إضاءة (بانورامية) تضيء الذات المبدعة من الداخل والخارج على السواء، لأن الأديب يقف على أحداث متعددة، ووجوه متنوّعة، وعلى تجارب ومعاناة وثقافات أسّست العلاقة معه، أو أثّرت في مكوّناته المعرفية، فاستمدّ منها نسع الإبداع، وعبّر عنها بالكلمة الموحية، والعبارة الدالّة التي سجّلها بقلمه الخصب، على دفاتره الخاصة، التي وصلت إلينا، لنطالع فيها وجهيه اللذين يبدوان ـ في النهاية ـ ناصعين، على الرغم مما هبّ عليهما من نسائم وعواصف.
ومع نزوع بعض الكتّاب العرب إلى تسجيل تجاربهم في سِيَرٍ ذاتية، فإن أصحاب هذا الجنس الأدبي يحاولون دائماً أن يوجدوا المسوّغات التي دفعتهم للبوح والاعتراف، وإنارة الماضي، "ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه، هو السبب الحقيقي، والدافع الأصيل".(1).
ومع أن "جبرا" يلمّح في بداية "البئر المهجورة" إلى رغبة كامنة في داخله لكتابة سيرته الذاتية منذ شبابه، فإننا لا نشك في الدافع المباشر الذي سوّغ به كتابة السيرة، فهو الأديب المبدع والفنّان المتعدّد المواهب، وقد حثّته السيدة "هايدي لويد" عام 1945، "حين كان يجلس معها في ـ فلسطين ـ جلسة ودٍّ وصفاء، يتناولان القهوة "إذ قالت بشيء من الإغراء":
ـ حدثني عن حياتك!... يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياةً مبعثرة.
ضحكتُ عندها، وقلت:
ـ حياة مبعثرة؟ أنا لست بطل الأبطال، إن كنتِ لا تعلمين.
ـ لا.. لا.. أنا لا أعني ذلك النوع من الحياة، ولكن تجربتك الفيزيائية، النفسية، الذهنية، علاقاتك العاطفية.
وبلمح البصر، عاودني خليط من أحداث طفولتي، ومراهقتي وسنواتي في إنكلترا، بتداخل وتسارع عجيبين. قلت:
ـ إذا كان ذلك ما تقصدين، فسأفعل، ولكن ليس الآن، لأن القصة طويلة جداً.
ـ إذن انتظر أن أقرأ سيرتك الذاتية يوماً ما.
ـ أخشى أن يطول انتظاركِ..."(2).
إن "جبرا" في سيرته الكاملة "يتفرّد عن كثير من السير الذاتية، ليس على الصعيد العربي فحسب بل على العالمي أيضاً، إذ أن قليلاً من الكتاب من يفرد لطفولته كتاباً خاصاً، بل إن معظمهم يميلون إلى تجنّب ذلك أو إهماله.. وقد جرت عادتهم إذا ركّزوا على أحداث طفولتهم أن ينظروا إليها بعين النضج الذي أدركوه مع تقدّم السن..".(3). ولم يكن "جبرا" كذلك، وإنما ترك طفولته تأخذ مجراها، وغالباً ما نظر إليها بعيني طفلٍ، وتعامل معها بعقلية البراءة..
لقد هيأ لنا "جبرا" بأسلوب الأديب أن نستشفّ من سيرته الآثار التي تركت بصماتها على فنّه وفكره، فسفح أمام أعيننا صور الأحلام التي دارت في مخيّلته، وفي هذا مصدرٌ هام يلقي مزيداً من الضوء على سيرته الأدبية، ونتاجه الفكري، واهتماماته المتعدّدة المتنوعة.
إن "جبرا" الذي غدا الأديب المتميّز في منظور القرّاء والنقاد على السواء، ترك بين أيدينا حياته وفكره وإبداعاته، وقد رسمها بقلمه، ومشاعره في لوحات "بانورامية"، ثلاث، أتت على مراحل حياته، وجعلها في كتابين (البئر الأولى) و(شارع الأميرات)، وقد أمهله القدر حتى طبع الأخير الذي رأى النور قبل رحيله عن عالمنا بأسبوع واحد، وكأن فارس الإبداع لم يرحل عن الساحة الأدبية إلاَّ بعد أن ثبّت عليها راياته بيديه.
أولاً ـ المرحلة الفلسطينية ـ الطفولة والصبا:
إن أول ما تناهى إلى سمع الفتى حين وفد على الحياة، كانت ألحان النواقيس، تعزفها أجراس كنيسة المهد في "بيت لحم" المدينة المقدسة عام 1920، وما إن تفتحت عيناه على الموجودات من حوله، حتى ارتفع بالنظر إلى السماء الزرقاء، التي تحيط بقباب المدينة ومناراتها، التي باركها الله بالسيد المسيح، فكان نظره محلّقاً دائماً إلى الأعالي، وقليلاً ما ينزل إلى الأرض، وكأنه يتنبأ بأنه سيغدو في مستقبل أيامه طائراً يحلّق في الأجواء، ويحمله الأدب على أجنحة لا زوردية، تتناسب مع روعة أرض القدس، وحاراتها القديمة، التي انتقل إليها مع أسرته، ودرس في كليتها العربية، كما أنها تتواءم مع روعة فلسطين وجمالها، التي غادرها يافعاً للدراسة في بريطانيا، ولم يكن يعلم أنه لن يتمتع بالإقامة فيها طويلاً، لأنه سيهجرها بحلول نكبة عام 1948، فيطير الطائر الجميل، وهو يحمل وشيها في منمنمات وعيه ولا وعيه، ولم تستطع فاتنات الإنكليز في لندن، ولا في جامعتي "إكسترا"، و"كمبردج"، ولا شقراوات "جامعة هارفرد" الأمريكيات أن يزلزلن شيئاً من الجوى الذي ظلَّ يحمله للوطن في حلّه وترحاله، وبقي مقيماً معه حتى الرمق الأخير.
تعلّق الفتى منذ حداثته بالكتاب، فعشق المطالعة، وتأثّر بأفكار طه حسين وسلامة موسى من الكتّاب العرب، ثم تطلّع بأنظاره إلى آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها، فأقبل ينهل ما وسعه من "إليوت، وفرويد، ويونغ، وسارتر، وكامو، وإيليا اهربنورغ، وشكسبير، وفوكنر، وغوته، وفلوبير، ودستويفسكي، وبايرون، وهيوم...".
لقد كان له مع هؤلاء وأمثالهم وقفات في استلهام فنهم الروائي، وإبداعاتهم النقدية، التي استفاد منها في النقد الذي جرّبه على شعر بدر شاكر السياب، وأدونيس بصورة خاصة، ويوسف الخال وتوفيق صايغ ورياض نجيب الريس وسواهم بصورة عامة، فكان أحد رموز الشعر الحديث بما طرحه من مصطلحات أشهرها "المنهج الموضوعي الجديد"، و"المعادل الموضوعي"، و"وحدة القصيدة العضوية"، حيث دعا للرجوع إلى التراث المشرقي، واستخدام الرموز، والانفتاح على العصر، وتجاوز الشعر التقليدي الذي مضى زمنه وانقضى، وعندما أهدى إليه أخوه ديوان "الملاح التائه"، للشاعر (علي محمود طه)، كإنتاج جديد من الشعر المعاصر، تصفّحه، فشعر بالامتعاض لأنه لم يجد فيه سوى "هراء وتنغيم أطفال، ومبتذلات القول كلها اجتمعت في تلك القصائد التي عُدّت يومها آية في التجديد والخلق"، (4).
وحين وضعوا بين يديه ديوان (أحمد شوقي) الذي بويع أميراً للشعراء العرب في القرن العشرين، عاودته الخيبة "كانت خيبتي بالمرارة نفسها، لتلك المنمنمات العثمانية التي ما عادت تجربة الحرب الطاحنة تتحمّلها"(5)، لأن هذا لا ينسجم مع منظور الشاعر المتفتح على الحياة.
لقد تبصّر "جبرا" في الصورة الشعرية الأوروبية، مع قلّة من أترابه، لكنه وجد نفسه ـ معهم ـ منبوذاً من قبل شعراء العمود، كما يقول "جبرا": لقد أصبحنا يومئذٍ ـ وإن كنا قلّة غريبة لم يعترف بنا أحد بعد ـ جزءاً من عصريات (الجمال) السطحي فيه ـ شيئاً مذموماً أقرب إلى (جمال) الزهور الشمعية المصطنعة، التي لن يقبلها ذوق لا يجد متعته إلاَّ في توتّر التجربة، وزخم الحسّ والعنف والمأساة"، (6).
على الرغم من أن "جبرا" جسّد في رواياته العالم البرجوازي، وأجواءه وطقوسه، وعلاقات أفراده... إلاَّ أنه في نشأته لم يكن كذلك، فحياة الأسرة في مرحلة طفولته التي رسمها في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، رصدت حياته حتى الثالثة عشرة، ولما كان العنوان علامةً بارزةً في تحديد النصّ، والكشف عن مجموعة الدلالات المركزية المنبثقة منه؛ فإن "جبرا" قد عمد إلى الإيحاء والترميز، نظراً لما للبئر من موقع حسّاس في النفس، ينمّ عن معايير معيّنة في اختياره لتركيب وصفي، جمالي ودلالي معاً، يوحي بالانخفاض والعوز والعمق والسجن والرطوبة والدونية والتحتية والرهبة، وقد كان يؤكّد على هذه الدلالة كلما استعاد في طفولته شيئاً من خوفٍ أو حزنٍ، فحين هزَّ زلزالٌ فلسطين، وصفه الأديب الكبير بعيّني طفلٍ صغيرٍ، في رواية "البحث عن وليد مسعود": شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة، لقد خضّ الأرض كما لو خضّتها ريح غريبة رهيبة، كنت جالساً على الأرض مع غيري من الأطفال في المدرسة الصغيرة، فحسبت الريح الهادرة هزّت البنيان القديم هزّاً عنيفاً، ولمّا انطلق الصبية مذعورين إلى الخارج، انطلقت معهم، ورأيت الحجارة تتساقط كتلاً من أعلى المبنى العتيق المقابل، وتتكوّم أمام عيني في ركام أبيض مريع، واتجهتْ أبصارنا من الخرابة التي نحن فيها نحو كنيسة المهد نستنجد الله لإنقاذنا، وسمعت بعض الكبار يقولون: "إن كان هذا يوم القيامة، فهل يستهدفنا الله تحت الأنقاض، ليقيمنا من تحتها مرة أخرى!". وفضلا ًعن ذلك، فإن العنوان يرمز إلى الذاكرة التي اختزنت في "بئرها" ما يمدّها بنسغ الإبداع وقد "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات. أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد"(. وهذا ما جعل "من الذاكرة (البئر) أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى. تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء"، (9). وأكّد على ذلك مراراً مركّزاً على لفظ "البئر" ومدلولها: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر. إنها البئر والعين التي تمدّني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أنها ستستمر في منع الجفاف والعطش".(10).
ولقد رأى في (البئر) ما يرمز إلى حياة الناس الواقعية، والدينية: أما الواقعية فهي مستمدّة من حياة الناس في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت البيوت لا تُسكن إذا لم تكن في بئرٌ: "هل توجد بئرٌ في حوش الدار؟ هل هي عميقة؟ وفي حالةٍ جيدة؟ هل ماؤها طيب؟ أم أنها لم تنزح من طينتها منذ سنين؟".(11).
أما المدلول الديني فقد استمدّه من التراثين: الإسلامي، الذي ورد في "سورة يوسف"، في القرآن كريم، والمسيحي، في قصة الملك البابلي "دانيال"، "حيث يتحوّل البئر في كل من القصتين إلى نقطة تحوّل نحو السمو والرفعة، بدلاً من أن تكون النقطة التي تنتهي عندها الحياة". (12).
إن مؤشرات المرحلة الأولى تنمّ عن حالة الفقر و الحلم التي وسمت حياة الطفل، وقد تغلغلت منمنماتها في ثنايا رواياته، وحظيت بيت لحم ـ مهد الطفولة، ومرتع الصبا ـ بنصيب وافر من استذكاراته التي شهدت تشكيل أولى التجارب والرؤى والأصوات، فاختزن
الصبي منها ما "يمرّ به كل يوم، يعاينه، أو يتلذّذ به". (13).
ارتبطت مدينة المهد في وعي الصغير بـ(المسيحية) رمز المحبة والسلام، كما ارتبطت بـ"الفقر والعوز"، فكان يرى الملاكين الصغار لا يجدون فيها ما يرغّبهم في العيش، فيندفعون نحو شاطئ البحر، ينتظرون السفن التي تحملهم، وبأيديهم مناديل الوداع، ميمّمين شطر المهجر الأمريكي. شأنهم في ذلك شأن إخوانهم، من ذلك الرعيل المهاجر، من أبناء بلاد الشام:
"كان أثر الهجرة بادياً بوضوح، في مطلع العشرينيات في خلوّ الكثير من البيوت والمباني من أصحابها، وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة، غير أن مركز "بيت لحم"، كحاضنة لمهد المسيح أعطاها تميّزاً من نوع فريد، وهيأت لعددٍ كبير من أهلها مورداً سياحياً من الصناعات اليدوية المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين، فكانت تستورد كمياتٍ كبيرة من الأصداف الخام لتحويلها... إلى مسابح وصلبان ومصغّرات لكنيسة المهد، وقبة الصخرة، إضافة إلى العلب، والأطر النفيسة، التي كانت ترصّع بالصدف، ويقبل على شرائها الزوّار الأجانب".(14).
تمثل "بيت لحم" الطبيعة الأولى البكر في مخيّلة "جبرا" فتظلّ ترافقه طوال حياته، لأنها طفولته، التي يسترسل في وصفها، ويرسمها في الربيع، فيستلهم عشياتها، وتتحول سماؤها إلى فضاءات جميلة تغطيها أسراب السنونو التي تفد "في العشيات تعبر الفضاءات اللازوردية، وقد وفدت من جديد إلى الأرض التي تحبّها... عشيات الربيع في بيت لحم. أينما كنا نلعب أو نغني. نروي الحكايات، كانت تصخب بجحافل السنونو، وتعبث وتلهو وتدور وتشفّ عن أسطح البيوت، ثم تعلو السماوات الرحاب، نتابعها وهي تغير وتنعطف وتستدير، ثم تغيّر وجهة طيرانها... وتملأ الأجواء فرحاً وبهجة، نتلقّى فعلها في أنفسنا دون ما وعي، فيشتدّ صخبنا، ونمعن في الركض والقفز ونرفع أصواتنا في الغناء والصياح.."(15).
ولا تمثِّل "بيت لحم" في الذاكرة مكان الطفولة، ومهد المشاعر الدينية فحسب، وإنما غدت مع أختها الكبرى "القدس" الوطن الصغير "فلسطين" تتبوأ في فن الروائي مكان القلب الذي يمدّ السرد الروائي بالنبض، ويضخّ إلى باقي أجزاء الجسد الدم الموّار، الذي يساعد على الحياة والأمل "أما القدس فهي من أكثر المدن حضوراً في رواياتي، ولا تكاد تخلو رواية من ذكر هذه المدينة"(16). إذ تلحّ عليه ذكراها بمرارة بعد ما غادرها إلى بغداد، بُعيد النكبة، حيث وجد نفسه منفياً محاصراً، وهو في ميعة الصبا. لذلك لم تثر بغداد لديه ـ في البداية ـ ماكان يرسمه القلب لها من سحرية المدن الشهرزادية: "في ذلك اليوم الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت إلى بغداد، لم يكن السبب أنني رأيت لندن وباريس والقاهرة ودمشق، لقد نسيت أسفاري وماعدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة أذكرها... أذكرها طيلة الوقت، تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها. تحت أشجارها المجرّحة، وسقوفها المهدّمة، وقدآتي إلى بغداد، وعيناي ما زالتا تتشبثان بها ـ القدس ـ...".(17).
إن "القدس" ظلّت مقيمةً في قلبه، مظللةً بالأمل والحاجة. فالبيت الذي سكنت فيه الأسرة في حارة (جورة العناب) خلّده في روايته (صراخ في ليلٍ طويل)، وقد جعله مقرّ بطل روايته (أيمن) الذي وصفه بتعابير الطفولة: "عندما كنت صغيراً أسكن مع أبي وإخوتي الثلاثة، في غرفةٍ مربعةٍ ضيقةٍ لها شباكٌ صغيرٌ واحدٌ، لا زجاج له. لا أظننا كنا نتذمر كثيراً، فليس جيراننا بأحسن حالاً منا، ولا أقرباء لنا ساكنين في بيوتٍ أحسن من بيتنا، فلا داعي هناك للحسد. كنا قانعين بنصيبنا. لم يشعر أحدٌ منا عن وعيٍ بزراية حالته، وفساد الهواء الذي يتنفسه... أما الشجار فقد كان من التقاليد الراسخة، فقد كنا نتشاجر بحماسةٍ هائلةٍ، ثم نتصالح فيعود الوئام بيننا مع الكثير من المحبة والرقةِ"(18).
يتذكّر "جبرا" ـ بعد أن تحسّن وضع الأسرة ـ البيت الذي أشار على أبيه ببنائه، بعد أن اختار مكانه بنفسه ـ قبيل النكبة ـ فوق جبل "القطمون" الذي يطلّ على الحيّ اليهودي، فكان كثيراً ما يقف في شرفته ويشاهد "أزواجاً من الفتيان والفتيات يصعدن إلى الباب، ويدقون الجرس.
كانوا يقولون إنهم ينجذبون بقنطرة المدخل، وأزهار الجارانبوم التي تكسو الدرج الحجري الأبيض، والنوافذ العالية، بأعمدتها الثلاثية ـ في الطابق الثاني ـ التي كانت حين تعكس الشمس تتصاعد كالشعلة الملتهبة فوق الوادي".(19)، وعلى الرغم من ابتعاد "جبرا" عن القدس فإنها لم تفارق ذاكرته، فلا تزال ضحكات أطفالها يتردّد صداها في سمعه. إنه يذكرها "كآدم يذكر الجنة. فالصبي إذ ينمو، تنمو المدينة في كل زاوية من زوايا نفسه... وصباه إنما هو انعكاس لمئات الطرقات والبيوت والحوانيت والأزقّة والأشجار والبقاع المزروعة التي تخضّر في الربيع، وتصفّر في الشتاء، والصخور المنتشرة في كل مكان، والتي تؤلف المدينة.. أين تنتهي الذات، ويبدأ الموضوع؟ هنا شارع بكى فيه الولد وجاع، وضحك، وعشق فتاة لا يعرف اسمها لأنها ابتسمت له من غير قصدٍ، وركض فيه. في المطر. في الظلام. مع إخوته. مع والديه. مع العشرات من أصدقائه الذين ما زال يسمع في ذهنه أصواتهم المتجاذبة. بين مباني الشارع. مثل هذا الشارع. هل يمكن أن يبقى امتداداً هندسياً موضوعياً مجرّداً؟؟".(20).
إن الذكريات الأولى في القدس ستظلّ حتى نهاية العمر تمدّه بموحيات الإبداع. يذكرها بتفاصيلها الدقيقة، من مشاركته في إضراب عام 1939، ومعاينته بناء الكلية العربية التي درس فيها، ولا ينسى ما عاناه مع أهله من الإرهاب الصهيوني الذي تعرضت له المدينة، حين "شرع اليهود في تدمير القدس الجديدة، مبتدئين أولاً بنسف المقرّات الحكومية، ومن أشهرها نسف جناح السكرتارية العامة للحكومة في فندق الملك داود، ونسفهم أيضاً بعد إعلان التقسيم في تشرين الثاني عام 1947 لمنازل العرب ليلاً، ولاسيما في حي القطمون الذي كان مجاوراً حي "راحافايا"، اليهودي، حيث سكن فيه مع أسرته بعد رجوعه من لندن".(21).
ويتذكّر معلميه العرب الذين درّسوه في القدس، وقد غدوا أعلاماً في الفكر و الأدب والشعر، أمثال الشاعرين: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، و الأدباء محمد خورشيد (محمد العدناني)، صاحب (معجم الأخطاء الشائعة)، وإسحاق موسى الحسيني، وحسن الكرمي، صاحب برنامج (قول على قول) في إذاعة لندن.
ومع تسارع الأحداث ودموّيتها، تعود الأسرة إلى بيت لحم، ولكن سرعان ما تحلّ النكبة، فتلقي بـ"جبرا" إلى بغداد، ليحطّ رحاله في ربوعها، وتغدو المدينة العربية الثالثة دار إقامته الأبدية. إذ كتب للجسد أن يوارى في ثراها، بعد أن وشّى الأندية والكتب والأمسيات بألوان قشيبة لا تبهت ألوانها على مدى الزمن.
و"جبرا"، الذي حمل فلسطين في جوارحه لم ينسَ يوماً الطغيان الصهيوني الذي كان شاهداً عليه ولن تغادر أنفه رائحة اليهودي "تزكم الطفل بالعفن والعطن الغريبين، وأمه توصيه وإخوته بالحذر من اليهود"، "إنهم يسرقون الأطفال في أعيادهم ليذبحوهم، ويمزجوا دماءهم في عجين خبز الفطير، وقبّة "راحيل"، ستبدو دوماً للطفل ذلك الحدّ الفاصل بين المعلوم والمجهول. بين الألفة الغربة، ولن تغادر الطفل حتى شيخوخته صورة الحاخامات، وأصداء ولولتهم الغريبة في القبّة التي تمتدّ بعدها الطريق إلى القدس. إلى عالم الغوامض والأسرار.
وستبدو القدس ـ بعد بيت لحم ـ قوام البعد الفلسطيني في عالم الطفل، وما سيؤول إليه، فمنذ الانتقال إلى دار (فتحو) في بيت لحم، وإذ يشرف "جبرا" مع أخيه "يوسف" على أضواء القدس، يقول الأخير: إنه ضياء مدينة القدس يريد الله لها أن تتوهج في وسط الظلام الذي يملأ الدنيا".(22).
ضمّت المرحلة الحلمية الأولى تطلّعات الفتى الأدبية المبكّرة في التغيير والتطوير، والتي تجلّت في رؤيته الشعرية التي التقت ـ فيما بعد ـ مع جماعة مجلة (شعر) اللبنانية "أيام كنا صغاراً ـ قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى في أوائل الأربعينيات ـ كان الشعر لنا غناءً وطرباً، وكنا نتصارع بأبيات الشعر من خلال الريح، ومن بين الأشجار، ومن على القمم. كان الشعر صنو البراءة. إنه صنو تجربة الفردوس، لا تجربة الجحيم. ـ ولعلني هنا أتحدّث كفلسطيني عرف النكبة ـ فالشعر صرير أسنان وصراخ ألم. الجحيم فلاة منبسطة يمشي المرء إلى ما لا نهاية دون أن يرى شيئاً، لا شجرةً، ولا طيراً. غربان تسفّ وتحلّق وتختفي ـ أحياناً ـ والسير وعرٌ ومستمرّ، والشعر صرير أسنان، وقرح في القدمين، والمصيبة هي أن غير الشعر لا يستحق الكتابة، فحتى النثر، إذا لم يكن بالمنطويات الشعرية، فهو ثرثرة باطلة.
وهكذا بلغنا نقطةً ما عدنا نستمرئ عندها الكلام الموشّى سطحاً. الفارغ قلباً، وفي هذا بلغنا مرحلة تشبه مرحلة الذوق التي
بلغتها أوروبا في العشرينيات الأولى من هذا القرن".(23).
إن "جبرا" في المرحلة الفلسطينية كان مشروعاً شعرياً واعداً، بإرهاصات مبكرة، عانى منها معاناة كبار المبدعين في العالم، كمعاناته من الأزمة (اللفظية) التي عبّر عنها بـ(أزمة الكلمات) فوقف عند الفرق بين رؤية الشاب لها، ورؤية المحترف، فالأول: "يرى الكلمات شابةً نقيةً لم تتهرّأ ـ بعد ـ بالاستعمال، ولكن الكاتب الحساس يرى بعد مرّ السنين أن هذه الكلمات التي هي وسيلته الأولى والأخيرة، أخذت تفقد نضارتها وطاقتها، وجعلت تتهرّأ وتتهافت بين يديه. أغلب الظن أن النضج يفوق أحياناً مقدرة المرء اللفظية، إلاَّ إذا استطاع أن ينمّي الطاقة اللفظية مع نموّه وتفكيره وتعبيره. هل بدأنا نشكّ في أن ألفاظنا أصابها الوهن، في حين أن تجربتنا اشتدّت تأجّجاً وعنفاً، وكانت النتيجة قطيعة بين الاثنتين؟... ربما.
الغريب أن الإنسان كلما كبر، استهجن التعقيد والغموض والإبهام، وتوخّى الوضوح والمباشرة، وأحياناً البساطة، ولكن رغم ذلك فإن الوضوح والمباشرة، والبساطة تختلف لديه عما كان يتوخاه منها في كتاباته الباكرة". (24).
لقد كان الشعر في مرحلة التفتح الأولى حلم الشاعر، ونور غده الذي يستشرف معه الحياة الجديدة، والنفاذ من خلاله إلى الكون، كان مدخله الذي يلج منه إلى عوالم الأدب والثقافة التي يطلّ منها على الإبداع، بأبهى صوره وأجمل رموزه التراثية "لكن صدمة الشعر الغربي ـ الإنكليزي على وجه التحديد ـ التي هزّت كيانه، وصبغت حدقته، وأيقظت قدراته الخلاقة، خاصة لتشابكها مع بقية خيوط النسيج الإبداعي للفنون التشكيلية والموسيقية، مما طبع "جبرا" منذ بدايات حياته على الاستغراق في التجربة الجمالية الكلية قبل تأمّل قسماتها المتميزة في الأجناس الأدبية المختلفة، ومحاولة تحقيقها في إنتاجه، وهو يصف لنا هذا الوله الشعري بالحياة".(25). قائلاً في "معايشة النمرة": "عشرينياتي الأولى، على ما كنت منهمكاً في مطالعته، وعلى ما كنت متعلّقاً به من حركات الرسم و النحت منذ النهضة الأوروبية، حتى ماتيس، وبراك، وبيكاسو، كان الشعراء بعض صانعيها، ومحفّريها ومالئيها، ما افتتنت با مرأةٍ، وما عشقت جسداً أو حجراً، وما أُخذت بفكرة، وما أحببت لوناً، أو خطاً، أو زهرة في الغابات، بين الصخور، على ركام الخرائب مع أروع المباني، إلاَّ وكان في الشعر هؤلاء المبدعون (ويعدّد عشرات منهم)، الدافع الأعظم لعواطفي، لإدراكي، لنفاذي إلى قلب الأشياء جميعاً. كم كان الشعر خلاقاً ورائعاً يومئذٍ!".
إن عشق الشعر ـ هو عشق لشعرية الحياة، والتماس ينابيعها في الشرق والغرب على السواء، ولقد اكتشف ابن الثامنة عشرة ـ بعد إلمامه باللغة الإنكليزية ـ جماليات الرومانسية الإنكليزية، ممثلةً في أشعار (كيتس) الذي ترجم له (أغنية إلى بلبل) و(أغنية عن إناء إغريقي)، وقد لمس فيهما طاقات تعبيرية هائلةً من العواطف تبدّت له أهميتها في حالات : الحب والجمال والحرية.... كما لمس مثل ذلك لدى (شيلي)، الذي أغرم به في باكورة شبابه إلى درجة العشق.
ولمّا كان اهتمامه الأول منصبّاً على الشاعرية الحلمية القائمة على التجديد، فإن رؤاه الأخرى للأدب والفن عامة، لم تكن ترضى بغير التجديد أيضاً، وقد أدرك "أن ما هو قائم ينبغي تغييره من دون أن يتوقّف طويلاً أمام الجديد المنتظر، وكانت له بصيرته التي تدفعه طليقاً إلى الجديد، بل كان له جموحه، الذي يحضّه على اقتفاء آثار جديدٍ غير مسبق، وربما كان هذا المزاج الجامع سبباً في الاحتفال بالثقافة والفن إلى حدود التقديس، حيث الثقافة ـ كما الفن ـ تذهب إلى إصلاح البشر، وتقف فوقهم، وإذا كان البحث عن الجديد قد حقق لقاء "جبرا" مع الرواية واللغة والشعر الحديث، فإن الجموح المنشدّ إلى جديدٍ غير مسبق، فصل بين الجديد والتاريخ، ووسّد الجديد الجامح زمناً إنسانياً كونياً لا وجود له، ومع أن "جبرا" في روايته اللاحقة "صيادون في شارع ضيق"، سيحدّد المكان والزمان، فإن التجريد لن يهجر "مثقفه المتعالي"، الذي يُرى اسماً ولا يرى كوجود ممكن التحقيق.".(26).
لقد كان هذا التجديد محور رؤية "جبرا" بعد عودته من إنكلترا إلى القدس وعمله في التدريس في المدرسة الثانوية التي درس فيها بعد أن تحوّل اسمها إلى (الكلية الرشيدية)، وظهر ذلك في روايتيه اللتين كتبهما بالإنكليزية: الأولى (الصدى والغدير)، ولم ينشرها، والثانية (صراخ في ليل طويل)، التي كتب أصولها في القدس عام 1946 ثم نقلها إلى العربية، ونشرها أول مرة في بغداد عام 1955.
إن لفلسطين في ذاكرة "جبرا" ولهاً لا يعادله وله آخر. وكانت كما قال عنها: "أشبه بشاعرية بصرية يستسلم لها المرء عفوياً"، ولقد كان هذا الوله في السنوات التي يسافر فيها إلى الخارج، تاركاً مكانه الأمومي المتصل برحم الأرض التي شهدت مراتع طفولته وصباه، وكان للنكبة أثرها البارز في تعميق الجرح الفلسطيني في الذاكرة الحية، فتداخلت في رواياته، ولوّنت أجواءها بألوان الحب والمأساة.
ثانياً ـ المرحلة الأوروبية ـ الغذاء الفكري والثقافي:
بين مرحلة الحلم والطفولة الشعرية التي رصدتها "البئر الأولى" وبين إقامته بعد النكبة في بغداد التي رصدتها سيرته الثانية "شارع الأميرات" هناك مرحلة التأسيس الأدبي والفني التي شكّلت شخصية "جبرا" الأدبية والفنية والفكرية، وكانت فترة خصبة من التحصيل الذي أغنى ذائقته وفكره في جامعتي "إكسترا وكمبردج". وحفزّت طموحه الثقافي للتزوّد من المعرفة، فكان على الرغم من إصابته بالرمد في تلك المرحلة نهماً للقراءة، جاداً في التعرّف إلى روّاد الأدب الأوروبي المعاصر، حيث كان لعدد منهم تأثيرٌ كبير على حياته وفنه وأدبه. الأمر الذي ساعده على شق طريقه الذهبي في الدراسة والعطاء الأدبي والترجمة، وقد حقّقت له الدراسة في "لندن" كثيراً من أحلامه، فهناك عرف المهندس الفرنسي "فرديناند دولسبس" الذي استطاع بما أوتيه من درايةٍ وحذقٍ، إقناعَ والي مصر سعيد باشا بضرورة حفر قناة السويس، التي تجمع بين بحرين كبيرين حقّق بها لقاء الشرق بالغرب، وقد ربط "جبرا" بين "دولسبس" العبقري وبين إنسانيته، أو خصوصياته كما رسمها بعناية في "شارع الأميرات"، حيث ركّز على صورة الرجل الكهل ا لذي تجاوز الرابعة والستين من عمره، وأحب فتاة في الحادية والعشرين، تزوجها، وأنجب منها أحد عشر ولداً.
وتعرّف "جبرا" إلى الأديب الإنكليزي "لورانس داريل" الشاعر، في مطلع حياته، ثم الروائي الأكثر شهرة في العالم ـ فيما بعد ـ صاحب "رباعية الإسكندرية" ورسم صورةً جميلةً لهذا المبدع الإسكندراني الذي تأثر به عددٌ من روائيي العرب، أمثال "فتحي غانم"، في "الرجل الذي فقد ظلّه"، و"نجيب محفوظ"، في "ميرامار"، و"غسان كنفاني"، في "ما تبقى لكم"، و"غادة السمان"، في "بيروت 75" و"ليلة المليار"، و"جبرا" نفسه في "السفينة".
لقد كانت المرحلة الإنكليزية رحلة الغذاء الفكري الذي فتح أمامه أبواب الثقافة والحداثة والمعاصرة، وأطلعه على آراء أساطين الفن، وأعلام الأدب في أوروبا، مما أيقظ في نفسه وعياً جديداً صقلته فاجعة النكبة، وزادته قناعة وإصراراً على الالتزام بالتغيير والتطوير، والثورة والحرية، والإصرار ـ نقدياً ـ على وحدة القصيدة العضوية، والتركيب الدرامي، والمؤثرات الأجنبية، من دون اللهاث وراء الصراعات الغربية، والاعتقاد بأن طريق الحداثة يحتاج إلى تمهيد وتعبيد، وتجربة وممارسة ووعي، ترافقه نهضة شاملة، وخلاص من التبعية والتخلف، والتعبير عن روح متوثبة تستوعب العصر وتستلهم التراث العربي، وهذا كله يستلزم الاهتمام بأسلوب الخطاب الفكري عامة والأدبي خاصة، وضرورة تجديد الكتابة العربية، والانفتاح على الإبداع الإنساني، وقد حمّل "جبرا" المثقف والفنان، مسؤولية القيام بدور المجدّد، وطالبه بالبحث عن أسلوب يستطيع من خلاله تصوير محنته، والتفريق بين أزمة الإنسان، وأزمة الأسلوب، بين محنة الأمة، ومحنة الفكر.
لقد احتضنت العاصمة الإنكليزية وعيه الفكري، كما احتضنت شبابه الغضّ، فقدّمت إليه أجمل فتياتها في صداقات وزمالة، داخل الجامعة وفي أماكن النزهة، وقد أتى على جانب من هذه العلاقات في ثنايا سيرته وانطباعاته عن المرحلة اللندنية، كعلاقته المتميزة بـ(غلاديس) الفتاة التي أحبها في سنوات الدراسة، وولع بها كأنثى، وعاشقة شعر: "في أوائل العشرينات من عمري، أيام الحرب العالمية الثانية، كنت أذهب من كمبردج إلى لندن، و(هي) التي كانت تأتي من جامعة (إكسترا) في جنوب غرب إنكلترا، وأنا وهي نحمل كتب الشعر، وأذكر منها قصائد دانتي. "اذكرني وأنا في أنفاق الـ"أندر غراوند"، وقطارات المترو، وأنا أقلّب صفحات ذلك الكتاب الصغير الحجم، المطبوع طبعاً كثيفاً ناعماً، انتقل من قصيدة إلى أخرى... خرائب لندن التي كانت تسبّبها الغارات الألمانية المتواصلة، انتشرت في كل مكان، وأنا أجد "حياة جديدة" في قصائد "دانتي" التي كتبها في مطلع شبابه حباً بـ"بباتريس" وأقرأها على "غلاديس" في شوارع المدينة الكبرى، وما كان أروع ضياعنا في طرقاتها وظلماتها".(27).
لقد قضى "جبرا" في جامعة (اكسترا) سنته الأولى، وفيها تعلّم الرقص، وعرف معنى الحب، ونكهة الجسد الأنثوي الذي ((كان عاصفاً كالريح، وجارفاً كالسيل، فضاؤه الحقول الخضراء، والأشجار البواسق، يضجّ بالجسد كما يضجّ بالروح"(28).
لقد أتاحت له الحياة في (اكسترا) أن يقيم علاقات عاطفية مع أكثر من فتاة في وقت واحد فـ(غلاديس نوبي)، التي طلب إليه صديقها "ستيف دنكرلي" أن يتخلّ لـه عنها لأنه سيتزوجها، ما يلبث أن يضحي له الصديق بها، فيحملها على دراجته، ويقدّمها إلى "جبرا" "وما حدث بقية ذلك النهار، والليلة التي أعقبته لا يمكن أن يروى بسهولة، فقد كان كالحلم، بعضه رعب، ومعظمه لذة، وكله أشبه بالمستحيل"، وسيبلغ التعبير المجازي ذروته حين يشبه "جبرا" شفتي "غلاديس" بفلقتي فاكهة باردة ندية، تذوبان ولا تذوبان على شفتيه.
و"برناديت" الأنثى ذات الستة عشر ربيعاً، عرف لذائذ جسدها الجارفة ولياليها المؤرقة، أما "جين هادسون"، التي تعرّف عليها في أحد البارات، فقد رأت في "جبرا" ـ بعد أن شهدت معه عروض المسرح الشكسبيري ـ "هاملت" العربي، كما تخيّلت نفسها "أوفيليا": "وقضينا أياماً في أحراش شكسبيرية ملأى بشموس متفجّرة".
أتى "جبرا" على بعض العلاقات العاطفية بروح الأديب، وبشيء من التفصيل، "ولم يتحرّج من ذكر الأسماء النسوية ممن كان على علاقة بهن، مع التنويه بطبيعة تلك العلاقة المادية القائمة على حضور الجسد، والخارجة عن نطاق الهوى العذري، في حين نراه يتحرّج من ذكر اسم الطالبة العراقية التي أحبّته، وكانت بينهما رسائل متبادلة؛ استردّتها بعد زواجه من "لميعة" وقدّمت له هديةً ثمينةً، دلالةً على نبلها، كما يتعمّد إغفال اسم تلك السيدة العراقية التي تعرّف عليها في "باريس" وهو في هذا إنما يحاول أن يعبر عن حال المرأة في كل من البيئتين، إذ أن تصريحه بأسماء النساء في إنكلترا إنما هو تعبير عن الحرية الكبيرة، التي تتمتع بها تلك المجتمعات، بينما يتحرّج من ذكر أسماء النساء العربيات، لأن التقاليد والأعراف لا تسمح بذلك، عاكساً حرصه على تجنّب كل مامن شأنه خدش الحياء، شأنه في ذلك شأن أغلب كتّاب السيرة الذاتية العرب، لم يستطع تجاوز القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمع. فالمجتمعات العربية كانت تضع المرأة في عزلة تكاد تكون شبه تامة، فضلاً عن الجهل والقسر، فالأديب هنا يعكس حالة المرأة في بيئته ويؤرخ لحيّاتها في ذلك العهد، وشكل الحياة التي عاشتها، وعاشت معها في المجتمعين"(29).
وكانت زيارات العمل أو السياحة التي كان "جبرا" يقوم بها من حين إلى آخر إلى العواصم الأوروبية والمدن الأمريكية ذات أثر كبير في إغناء ثقافته، وقد تركت في نفسه انطباعات لا تنسى، فـ"باريس" التي قصدها صيف عام 1951 سائحاً، حفرت في نفسه معالم فنها، وثقافتها، فتملّى من (قوس النصر) و(برج إيفل) وحدائق (التويليري) ففرح وبكى لدى رؤيته لوحات الانطباعيين وسواهم في متحف (أورانجري) "أيّ فرح عارم هزّني حتى النخاع! وكما هو شأني كلما فاجأني الجمال، شهقت وفاضت عيناي وأحاول يائساً كبح دموعي...
هكذا كان حالي حين رأيت لأول مرّة لوّحات مونيه، وديفا، ورينوار، وبيزارو، وسيزلي، وسيزان، وفان غوخ، والآخرين.".(30). ولقد وجد "جبرا" في باريس ذلك النبع الذي يروي فكره، ويعطي تجربته بعداً أكبر، بعد ذلك الجوع الثقافي الذي أصابه منذ مغادرته "كمبردج"، "كنت في حركة دائبة، ألعب دور المتلقّي الذي أصابه النهم بعد سنوات من جوع ثقافي منذ مغادرته "كمبردج"، وكنت بدأت أشعر أنني أستنفذ خزيناً ذهبياً لابدَّ من إعادة ملئه، وهاهي المدينة التي تعطيك وتعطيك بقدر ما بوسعك أن تأخذ وتلتهم، وعشقي للفنون هنا ما يغذّيه ويشحذّه كل يوم بمزيد من اللهفة والمتعة".(31).
وما أحسّ به في "باريس" من المتعة والحرية والفن، كان نقيض ما أحسّ به في (أمريكا) التي وصفها بـ(العالم الجهم المكتظ بالبشر)، حين قصدها مع زوجته في زمالة دراسية في جامعة (هارفرد) وما اختزنه في نفسه لها تمثّله الغرفة التي نزلا بها "شقتنا تتألف من غرفة كبيرة واحدة مع حمام، ومطبخ صغير بسيط التأثيث... والكنبة الزرقاء التي نجلس عليها في النهار ـ بالإضافة إلى ثلاثة كراسي كبيرة مريحة ـ تتحوّل في الليل بفتحها إلى فراش، إلاَّ أنه فراش غير مريح، فكّنا ساعة النوم نرفع منها الحشايا والوسائد، ونرتّبها على الأرض فراشاً عريضاً، كنّا راضين به في الجنة السحرية التي اقتطعناها أخيراً لأنفسنا في عالم جهم، مكتظّ بالبشر"، (32).وواضح أن النصّ "يجسّد الوضع النفسي للشخصية من خلال علاقتها بالمكان، فعلى الرغم من ضيق الشقة ووقوعها في بناية ضخمة ذات الشقق العديدة والمكتظّة بالبشر. إلاَّ أنها تتحوّل بوجود
(لميعة) إلى جنة سحرية ضمّت الزوجين لأول مرة"(33).
وبقدر ماكان وصفه لباريس ومعالمها حيوياً، جمالياً وإنسانياً، كان وصفه لمعالم أمريكا خالياً من تعابير التعاطف الإنساني، كما في وصفه لشارعين من شوارع نيويورك هما الصورة الحية للحياة في أمريكا. حيث التباين الواضح بين الفقر والتخلف، والغنى الفاحش للمجتمع الأرستقراطي. فشارع "برودواي" في الحي الشعبي، "طريق متعرّج يقطع الشوارع المستقيمة الأخرى حسبما يشاء، كثير الألوان والأنوار، بادي القذارة، يتعاقب فيه النور والظلام... تملؤه المطاعم الرخيصة التي تضجّ برنين الأشواك والسكاكين، والصحون بين أيدي رجال ونساء كهول جلست الوحشة على وجوههم، وفي الأماكن التي تفضّلها، تجد أغلبية النساء المتوسطات العمر، عجيبات القبعات، في ثرثرة لا تنتهي، وفي هذا الشارع. في خفاياه التي لا يتاح إلاَّ للمريدين معرفتها، تجتمع النفايات الغربية، والمجرمون، والعائشون على ضعف الإنسان، الفقراء والدمامة ألفت للنظر من غيرهما، أمتعة رخيصة، وعواطف رخيصة، وإلى جانب هذا وذاك عدد من أحسن مسارح الدنيا".(34).
أما الوجه الآخر للمجتمع الأرستقراطي الأمريكي، هو الشارع الخامس "ففث أفينو"، "شارع متلألئ النظافة، جميل الدكاكين، شاهق العمارات، يمشي على أرصفته نفر من أجمل حسان الدنيا وأشدّهن أناقة، وتباع فيه أغلى الأمتعة، وأشدّها إغراءً للنفس، وهو مستقيم منظّم، شديد القسوة، عديم المبالاة إلاَّ بمن أوتي كثيراً من المال أو وافراً من الحزن".(35).
وكما أُخذ "جبرا" في "باريس" بجماليات الأمكنة، وسكر بسحرها، فإن للمدن الإنكليزية ـ في نفسه ـ نكهتها الخاصة باعتبارها المدن الأولى التي عرفها بعد فلسطين، وعرف فيها لذاذات الحب، ولذاذات الأدب، وظلّ يقيم لها في ذاكرته المكانة الأولى بين المدن الأجنبية، فمن "أكسفورد" كان يتملّى تمثال الشاعر الرومانسي (شيلي) عارياً غريقاً تبكيه ربّة الشعر، وفي "ستراتفور أون أفون"، كان يجذبه مسقط رأس "شكسبير"، وفي داره التي قضى فيها "جبرا" يوماً رائعاً، تحايل على أمين الدار، واقترف المحظور بأن كتب اسمه على خشبة إحدى النوافذ قرب اسم الشاعر "بايرون"........
لقد عدَّ "جبرا" "ستراتفور..." كعبته التي يحجّ إليها، فتكرّرت زياراته إليها لحضور عروض مسرح شكسبير التذكاري "ذهبت إلى ستراتفور حاجّاً مرة أخرى، لأشاهد في أسبوع واحد ثماني مسرحيات، وذلك بأن أتردّد على المسرح كل يوم، فكنت كل صباح أقرأ نصّ المسرحية التي سأشاهدها في ذلك المساء، وكانت آخرها، وتتويجاً لها (مأساة هملت)، وبقيت نسختها التي قرأتها يومئذٍ محفوظةً عزيزةً بين كتبي، بشيء من (سنتيمنتالية المحب)".(36).
في (كمبردج) وغيرها من الأكاديميات الأوروبية عاين "جبرا بنفسه اهتمام الغرب بأعلام العرب وتراثهم الأدبي والفكري، وتوقّف مندهشاً أمام الاحتفاء الأوروبي البالغ بالرموز العربية والإسلامية، في الأدب والطب والاجتماع والفلسفة و التصوّف، فقادته تلك الدهشة وذاك الاحتفاء إلى مراجعة حساباته الأدبية والفكرية والفنية، فانطلق ـ رغم تعلّقه بالحداثة وتمسكه بالتجديد ـ يمعن النظر في الجذور التراثية للأمة العربية، ورأى فيها جوهر الذات الذي تتحقّق فيه الهوية القومية التي تمنح العربي خصوصيةً وتميّزاً، وتمنعه من أن يكون بوقاً لنظريات الغربيين، أو ببغاءً يردّد مقولاتهم التي لا تعتمد على جذور تراثية كالتي عند العرب.
لقد التفت "جبرا" ـ مثلاً ـ إلى المتنبي التفاتة العربي الغيور، فاستقرأ في شعره تراثاً أصيلاً، وطالع في شخصيته أديباً فذّاً، مناضلاً يقرن القول بالفعل، ويمدّ الجيل الجديد بالأسباب المحفزّة للتطور والتغيير، فنبّه إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالماضي وعطاءاته، ودعا إلى استلهامه والإضافة عليه، بغية تحويل التراث وأعلامه إلى محفزات للإبداع، وبصورة خاصة حين تكون العودة إلى الجذور مشبعةً بقضايا العصر الراهن وأساليبه، وأشار ـ منطلقاً من بعث الثقة في النفس ـ إلى ما يزخر به التراث العربي السردي من خصبٍ، كألف ليلة وليلة، التي وجد فيها الغربيون كنوزاً لا تنضب، وعدّها المثقف الأوروبي مثالاً للسحر والمتعة. وطمح الروائي الغربي إلى إيجاد نماذج مماثلةً لها، يحتذي فيها هذا العالم الجميل المكتظّ بالمثل التي يجسّدها الحب والخير والجمال والحرية والأمل، والثقة بالنفس، وتتجلّى فيها الإنسانية المطلقة.
لقد أخذ "جبرا" على الفكر العربي المعاصر عدم التفاته إلى ألف ليلة وليلة، واحتفائه بها، كالغربيين، وتجاهل تراكيبها وأفكارها وصورها، ومجتمعاتها وعلاقات أفرادها، وأهوائهم النفسية ورغباتهم الجنسية، وعوالم الملوك والسادة والعبيد، والجواري، وغير ذلك من الجوانب الكبيرة التي تقدّم للنقد العربي والأدب المعاصر مادة زاخرة بعطاء لا ينضب "وإذا ما تذكرنا أن الرواية العربية المعاصرة، تركّز اهتمامها على الجوانب السيكولوجية، وتضيف إليها الاهتمامات التركيبية، ندرك لماذا تصبح "ألف ليلة وليلة"، مهمّة مرة ثانية، وخاصة بالنسبة إلينا، وكونها أدباً شعبياً يزيد من قيمتها، فهي تمثل فوران المخيّلة الإنسانية على نطاق الأمة بأكملها، فهو فوران بلا حدود". (37).
إن المرحلة اللندنية صقلت أفكار "جبرا" ورسّخت وعيه بقيمة التراث، وضرورة استلهام قيمه الجمالية والتعبيرية، فأخذ، مثلاً ـ بعد عودته من كمبردج ـ على (فن المقامات) التي نالت إعجاب المعلمين العرب، أنها كانت أدباً للخاصة، ولم تكن بأيّ حال أدباً للعامة، بسبب لغتها المعجمية التعليمية، وهذا ما جعل الغربيين ينأون عنها بأصارهم، ويفضّلون عليها ألف ليلة وليلة، لاحتوائها على ما يثير الدهشة الإنسانية، التي لا يمكن أن تثيرها المقامات، التي تفقد رونقها في الترجمة والنقل... بينما تظلّ الليالي مثار الدهشة وينبوع السحر، وملهمة الأديب ومثيرة القارئ العادي والمثقف.
ومن الطبيعي أن يتحوّل الإعجاب في نفس "جبرا" إلى عشق انصّبت عليه جهوده، فالليالي الشهرزادية أبدعتها الجماهير العربية، التي تحيا بالكلمة، وتنتعش بها، رغم ما تعرّضت له من جوع وطغيان، أظهرتها السيرة الشعبية على حقيقتها: تحبّ وتكره وتجوع وتشبع، لكنها تظلّ محافظة على حيويتها، ووسائل عيشها وهذا ما جعل عالم الليالي "يتسع ويترامى ويغتني ويتشعّب أحداثاً، ويزداد شعراً، ويفيض بشراً، ويتعمّق في ذاتها ويجسّد رموزها، حيث اختزنت ذلك الجوهر الغامض الذي عصيَ على الظلام مهما تكاثف".(38).
حرية الفكر:
شكّلت المرحلة الأوروبية، و(اللندنية)، على وجه الخصوص، جانباً هاماً من شخصية "جبرا"، الثقافية، وكوّنت استقلاله الفكري، فكان أنموذجاً مثقفاً متفرّداً، فاعلاً غير منفعل، ومؤثّراً فيما حوله، فـ"جبرا" الذي لوحظ عليه تأثّره بالفكر القومي السوري (39) في مطلع شبابه،كاد ينقطع للترويج لحرية الثقافة، وحرية الأدب والأديب معاً، فصارت الحرية هاجسه الأول، وربما كان للمجتمع الأوروبي بعلاقاته الاجتماعية مع نسائه، وصلاته الأدبية مع مثقفيه، ومسارحه، الدور الرئيسي في هذه الحرية التي كان من أهم سماتها رفضه للالتزام الذي رفضته مجلة (شعر) ـ فيما بعد ـ وهو أحد كتّابها ـ على الرغم من انطلاقها من الوجودية السارترية، واتخاذها أرضية تبني عليها تطوّرها الفكري، وتطلّعها إلى حيّز (ليبرالي) واسع، استوحته من أفكار حزب (سعادة) القومي السوري، الذي يريد للأدب والثقافة والفنون أن تعبّر عن الحرية الوجودية (40).
إن من أولى معطيات تلك المرحلة الأوروبية، وتأثيراتها على فكره، انحيازه "للمشروع الليبرالي من خلال بعض أبطال رواياته، و.... أكثر شخصيات "جبرا" التي بدت بدايات يسارية تنتهي إلى الليبرالية، وهذا يعني في دلالته العميقة ضرورة الليبرالية، لمجابهة التخلّف والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة، ومع... تفريقنا بين الليبرالية كما في أحزاب وقوى، والليبرالية كما فهمت بشكل عام، أي الديمقراطية، فإن المسألة الديمقراطية تبقى هي الأساس.
قد يكون عهد الليبرالي غير ممكن التحقّق في هذه المنطقة، ولكن التخلّف، والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة لا يمكن حلّه إلاَّ بالديمقراطية. إن تصلّب عود الدولة القطرية التي تزيّف كل شيء، لا يمكن تعريتها إلاَّ عن طريق توكيد الحرية والثقافة والحداثة، أي بوساطة المشروع الديمقراطي، الذي قد يتخذ أشكالاً ومضامين مختلفة، حسب القوى التي تحمله، فرغم فشل بعض المشروعات الليبرالية إلاَّ أن ذلك يؤكّد ضرورة الإصرار على الديمقراطية، أقصد الحرية والكلام والإبداع".(41).
جسّد "جبرا" بعض هذه الرؤية في روايته العربية الأولى "صيادون في شارع ضيق"، التي بدأ كتابة سطورها الأولى في أمريكا، حيث سلّط الأضواء فيها على "الشرائح الإقطاعية الأرستقراطية التي حكمت العراق في الخمسينيات، وكشف عن بذور انهيارها التي تحملها في داخلها، فقد انفصل قسم منها تحت تأثير الحضارة الغربية، ونتيجة انتشار التعليم فيها، وهي تبرز أيضاً بداية تبلور وعي الحداثة، ويصرّ على لعب دوره في التغيير، كما تصور هشاشة هذا البديل، وضياعه المسبق ورخاوته وضعف حسّه التاريخي، كما يبرز في النموذج الماركسي، وفيها نرى بداية دخول الجيش مسرح الفعل الاجتماعي، ونرى الأرضية المعقدة للواقع الاجتماعي العربي. إن العلاقات العشائرية والإقطاعية، إضافة إلى الكبت الجنسي، والتشرذم الاجتماعي، ممثّلاً بالأقليات القومية والدينية، والتي هي مع قيم غرب متحضر، هي التي تسود عالم هذه الرواية.
وهو من خلال ذلك كله، يبرز صلابة الواقع إزاء هشاشة من يتصدّون لـه، ويؤكّد تعاطفه مع التغيير، مصّراً على الحداثة والفعل والصلابة ـ وهي لا تكفي، بل قد لا تعني شيئاً من دون وعي مطابق وحقيقي ـ كبديل هذا الواقع".(42).
إن عالم "جبرا" الفكري والثقافي والنقدي تمثّل في أبهى صوره من خلال الأفكار التي زوّدته بها المرحلة الأوروبية الأولى من حياته، وصبّه في كتابه الفكري الأول "الحرية والطوفان". فكان الـ(منيفستو) الأول لـ "جبرا" المسكون بالحرية، و"العلامة الفارقة في الأدب والفن والنقد ـ هل أقولها ـ السياسة. بل لعل من الضروري أن نشرح ماذا تعني عندما نقول إن "جبرا" يبحث في السياسة، في "الحرية والطوفان"... فهو لا يخوض غمار معركة مباشرة من هذا النوع؛ وهو فقط يبحث في جزء من الكتاب، وفي أهمّ جزء فيه، عن مدى الخطر الذي يهدّد الكاتب في حال لو انفجر السدّ، وغمر الطوفان كل قيم الفنان الحقيقي.
هو يبحث في الحرية، كحرية، كمجموعة مبادئ تشغل أعماق وجود كل فنّان ومبدع. "جبرا" يعلّل المد الطغياني الذي يشلّ الكثير في مجتمعنا الع
يعيش الإنسان وفي أعماقه شيء من الخوف والحذر المتواصل الذي يتردّد طويلاً في الكشف عنه، لأن النفس الإنسانية تسمو بمشاعرها وتهبط، وتخفي أسرارها بصورةٍ عامة، وتبدي، وكتّاب السيرة الذاتية كغيرهم يبدون ما يودّون إظهاره، أما خصوصية الخاص فيظل مخفياً في السريرة لا يدري به سوى صاحبه، ولكنهم ربما يكونون أكثر شجاعة من غيرهم حين يمتلك أحدهم الشجاعة والقدرة على البوح، غير عابئ بما يترتّب على بوحه من عواقب، بسبب ما يحفّ بهذا الجنس الأدبي من مخاطر تقتضيها طبيعة البوح والاعتراف، والتخلّص من الأهواء والنزعات الشخصية، إضافة إلى أن بعض الأحداث التي يرويها الكاتب عن نفسه بتجرّدٍ، يمكن أن تعصف بقدرته على وزن الأشياء، وتقويم الأمور بصورة صحيحة.
والأديب حين يكتب سيرته الذاتية مدفوعاً بشغف الإبداع، فإنه لا يتوقّف عند المكوّنات الثقافية الأولى، ولا عند الغبطة المبدئية لوهج الكتابة، وإنما يمضي إلى أبعد من ذلك، فيكاشف أغلب السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أثّرت في شخصيته وثقافته وإبداعه، بدءاً من نشأته وتعليمه واختلافه إلى أماكن اللعب واللهو، وحتى الصبابة و الحب والشباب والكهولة.. إنه يحدّد صفحات مختلفة من السيرة المكانية / الزمانية للواقع، ويضع في خلفية سيرته الذاتية هذه الصفحات لتؤكّد على الهوية والانتماء والعلاقات الاجتماعية والفكرية، وعلى الكينونة المميّزة لسيرته في الحيّز الذي عاش فيه واستوحى منه، والزمن الذي شهد إبداعه.
وعلى ذلك فالسيرة الذاتية تعدّ إضاءة (بانورامية) تضيء الذات المبدعة من الداخل والخارج على السواء، لأن الأديب يقف على أحداث متعددة، ووجوه متنوّعة، وعلى تجارب ومعاناة وثقافات أسّست العلاقة معه، أو أثّرت في مكوّناته المعرفية، فاستمدّ منها نسع الإبداع، وعبّر عنها بالكلمة الموحية، والعبارة الدالّة التي سجّلها بقلمه الخصب، على دفاتره الخاصة، التي وصلت إلينا، لنطالع فيها وجهيه اللذين يبدوان ـ في النهاية ـ ناصعين، على الرغم مما هبّ عليهما من نسائم وعواصف.
ومع نزوع بعض الكتّاب العرب إلى تسجيل تجاربهم في سِيَرٍ ذاتية، فإن أصحاب هذا الجنس الأدبي يحاولون دائماً أن يوجدوا المسوّغات التي دفعتهم للبوح والاعتراف، وإنارة الماضي، "ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه، هو السبب الحقيقي، والدافع الأصيل".(1).
ومع أن "جبرا" يلمّح في بداية "البئر المهجورة" إلى رغبة كامنة في داخله لكتابة سيرته الذاتية منذ شبابه، فإننا لا نشك في الدافع المباشر الذي سوّغ به كتابة السيرة، فهو الأديب المبدع والفنّان المتعدّد المواهب، وقد حثّته السيدة "هايدي لويد" عام 1945، "حين كان يجلس معها في ـ فلسطين ـ جلسة ودٍّ وصفاء، يتناولان القهوة "إذ قالت بشيء من الإغراء":
ـ حدثني عن حياتك!... يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياةً مبعثرة.
ضحكتُ عندها، وقلت:
ـ حياة مبعثرة؟ أنا لست بطل الأبطال، إن كنتِ لا تعلمين.
ـ لا.. لا.. أنا لا أعني ذلك النوع من الحياة، ولكن تجربتك الفيزيائية، النفسية، الذهنية، علاقاتك العاطفية.
وبلمح البصر، عاودني خليط من أحداث طفولتي، ومراهقتي وسنواتي في إنكلترا، بتداخل وتسارع عجيبين. قلت:
ـ إذا كان ذلك ما تقصدين، فسأفعل، ولكن ليس الآن، لأن القصة طويلة جداً.
ـ إذن انتظر أن أقرأ سيرتك الذاتية يوماً ما.
ـ أخشى أن يطول انتظاركِ..."(2).
إن "جبرا" في سيرته الكاملة "يتفرّد عن كثير من السير الذاتية، ليس على الصعيد العربي فحسب بل على العالمي أيضاً، إذ أن قليلاً من الكتاب من يفرد لطفولته كتاباً خاصاً، بل إن معظمهم يميلون إلى تجنّب ذلك أو إهماله.. وقد جرت عادتهم إذا ركّزوا على أحداث طفولتهم أن ينظروا إليها بعين النضج الذي أدركوه مع تقدّم السن..".(3). ولم يكن "جبرا" كذلك، وإنما ترك طفولته تأخذ مجراها، وغالباً ما نظر إليها بعيني طفلٍ، وتعامل معها بعقلية البراءة..
لقد هيأ لنا "جبرا" بأسلوب الأديب أن نستشفّ من سيرته الآثار التي تركت بصماتها على فنّه وفكره، فسفح أمام أعيننا صور الأحلام التي دارت في مخيّلته، وفي هذا مصدرٌ هام يلقي مزيداً من الضوء على سيرته الأدبية، ونتاجه الفكري، واهتماماته المتعدّدة المتنوعة.
إن "جبرا" الذي غدا الأديب المتميّز في منظور القرّاء والنقاد على السواء، ترك بين أيدينا حياته وفكره وإبداعاته، وقد رسمها بقلمه، ومشاعره في لوحات "بانورامية"، ثلاث، أتت على مراحل حياته، وجعلها في كتابين (البئر الأولى) و(شارع الأميرات)، وقد أمهله القدر حتى طبع الأخير الذي رأى النور قبل رحيله عن عالمنا بأسبوع واحد، وكأن فارس الإبداع لم يرحل عن الساحة الأدبية إلاَّ بعد أن ثبّت عليها راياته بيديه.
أولاً ـ المرحلة الفلسطينية ـ الطفولة والصبا:
إن أول ما تناهى إلى سمع الفتى حين وفد على الحياة، كانت ألحان النواقيس، تعزفها أجراس كنيسة المهد في "بيت لحم" المدينة المقدسة عام 1920، وما إن تفتحت عيناه على الموجودات من حوله، حتى ارتفع بالنظر إلى السماء الزرقاء، التي تحيط بقباب المدينة ومناراتها، التي باركها الله بالسيد المسيح، فكان نظره محلّقاً دائماً إلى الأعالي، وقليلاً ما ينزل إلى الأرض، وكأنه يتنبأ بأنه سيغدو في مستقبل أيامه طائراً يحلّق في الأجواء، ويحمله الأدب على أجنحة لا زوردية، تتناسب مع روعة أرض القدس، وحاراتها القديمة، التي انتقل إليها مع أسرته، ودرس في كليتها العربية، كما أنها تتواءم مع روعة فلسطين وجمالها، التي غادرها يافعاً للدراسة في بريطانيا، ولم يكن يعلم أنه لن يتمتع بالإقامة فيها طويلاً، لأنه سيهجرها بحلول نكبة عام 1948، فيطير الطائر الجميل، وهو يحمل وشيها في منمنمات وعيه ولا وعيه، ولم تستطع فاتنات الإنكليز في لندن، ولا في جامعتي "إكسترا"، و"كمبردج"، ولا شقراوات "جامعة هارفرد" الأمريكيات أن يزلزلن شيئاً من الجوى الذي ظلَّ يحمله للوطن في حلّه وترحاله، وبقي مقيماً معه حتى الرمق الأخير.
تعلّق الفتى منذ حداثته بالكتاب، فعشق المطالعة، وتأثّر بأفكار طه حسين وسلامة موسى من الكتّاب العرب، ثم تطلّع بأنظاره إلى آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها، فأقبل ينهل ما وسعه من "إليوت، وفرويد، ويونغ، وسارتر، وكامو، وإيليا اهربنورغ، وشكسبير، وفوكنر، وغوته، وفلوبير، ودستويفسكي، وبايرون، وهيوم...".
لقد كان له مع هؤلاء وأمثالهم وقفات في استلهام فنهم الروائي، وإبداعاتهم النقدية، التي استفاد منها في النقد الذي جرّبه على شعر بدر شاكر السياب، وأدونيس بصورة خاصة، ويوسف الخال وتوفيق صايغ ورياض نجيب الريس وسواهم بصورة عامة، فكان أحد رموز الشعر الحديث بما طرحه من مصطلحات أشهرها "المنهج الموضوعي الجديد"، و"المعادل الموضوعي"، و"وحدة القصيدة العضوية"، حيث دعا للرجوع إلى التراث المشرقي، واستخدام الرموز، والانفتاح على العصر، وتجاوز الشعر التقليدي الذي مضى زمنه وانقضى، وعندما أهدى إليه أخوه ديوان "الملاح التائه"، للشاعر (علي محمود طه)، كإنتاج جديد من الشعر المعاصر، تصفّحه، فشعر بالامتعاض لأنه لم يجد فيه سوى "هراء وتنغيم أطفال، ومبتذلات القول كلها اجتمعت في تلك القصائد التي عُدّت يومها آية في التجديد والخلق"، (4).
وحين وضعوا بين يديه ديوان (أحمد شوقي) الذي بويع أميراً للشعراء العرب في القرن العشرين، عاودته الخيبة "كانت خيبتي بالمرارة نفسها، لتلك المنمنمات العثمانية التي ما عادت تجربة الحرب الطاحنة تتحمّلها"(5)، لأن هذا لا ينسجم مع منظور الشاعر المتفتح على الحياة.
لقد تبصّر "جبرا" في الصورة الشعرية الأوروبية، مع قلّة من أترابه، لكنه وجد نفسه ـ معهم ـ منبوذاً من قبل شعراء العمود، كما يقول "جبرا": لقد أصبحنا يومئذٍ ـ وإن كنا قلّة غريبة لم يعترف بنا أحد بعد ـ جزءاً من عصريات (الجمال) السطحي فيه ـ شيئاً مذموماً أقرب إلى (جمال) الزهور الشمعية المصطنعة، التي لن يقبلها ذوق لا يجد متعته إلاَّ في توتّر التجربة، وزخم الحسّ والعنف والمأساة"، (6).
على الرغم من أن "جبرا" جسّد في رواياته العالم البرجوازي، وأجواءه وطقوسه، وعلاقات أفراده... إلاَّ أنه في نشأته لم يكن كذلك، فحياة الأسرة في مرحلة طفولته التي رسمها في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، رصدت حياته حتى الثالثة عشرة، ولما كان العنوان علامةً بارزةً في تحديد النصّ، والكشف عن مجموعة الدلالات المركزية المنبثقة منه؛ فإن "جبرا" قد عمد إلى الإيحاء والترميز، نظراً لما للبئر من موقع حسّاس في النفس، ينمّ عن معايير معيّنة في اختياره لتركيب وصفي، جمالي ودلالي معاً، يوحي بالانخفاض والعوز والعمق والسجن والرطوبة والدونية والتحتية والرهبة، وقد كان يؤكّد على هذه الدلالة كلما استعاد في طفولته شيئاً من خوفٍ أو حزنٍ، فحين هزَّ زلزالٌ فلسطين، وصفه الأديب الكبير بعيّني طفلٍ صغيرٍ، في رواية "البحث عن وليد مسعود": شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة، لقد خضّ الأرض كما لو خضّتها ريح غريبة رهيبة، كنت جالساً على الأرض مع غيري من الأطفال في المدرسة الصغيرة، فحسبت الريح الهادرة هزّت البنيان القديم هزّاً عنيفاً، ولمّا انطلق الصبية مذعورين إلى الخارج، انطلقت معهم، ورأيت الحجارة تتساقط كتلاً من أعلى المبنى العتيق المقابل، وتتكوّم أمام عيني في ركام أبيض مريع، واتجهتْ أبصارنا من الخرابة التي نحن فيها نحو كنيسة المهد نستنجد الله لإنقاذنا، وسمعت بعض الكبار يقولون: "إن كان هذا يوم القيامة، فهل يستهدفنا الله تحت الأنقاض، ليقيمنا من تحتها مرة أخرى!". وفضلا ًعن ذلك، فإن العنوان يرمز إلى الذاكرة التي اختزنت في "بئرها" ما يمدّها بنسغ الإبداع وقد "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات. أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد"(. وهذا ما جعل "من الذاكرة (البئر) أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى. تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء"، (9). وأكّد على ذلك مراراً مركّزاً على لفظ "البئر" ومدلولها: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر. إنها البئر والعين التي تمدّني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أنها ستستمر في منع الجفاف والعطش".(10).
ولقد رأى في (البئر) ما يرمز إلى حياة الناس الواقعية، والدينية: أما الواقعية فهي مستمدّة من حياة الناس في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت البيوت لا تُسكن إذا لم تكن في بئرٌ: "هل توجد بئرٌ في حوش الدار؟ هل هي عميقة؟ وفي حالةٍ جيدة؟ هل ماؤها طيب؟ أم أنها لم تنزح من طينتها منذ سنين؟".(11).
أما المدلول الديني فقد استمدّه من التراثين: الإسلامي، الذي ورد في "سورة يوسف"، في القرآن كريم، والمسيحي، في قصة الملك البابلي "دانيال"، "حيث يتحوّل البئر في كل من القصتين إلى نقطة تحوّل نحو السمو والرفعة، بدلاً من أن تكون النقطة التي تنتهي عندها الحياة". (12).
إن مؤشرات المرحلة الأولى تنمّ عن حالة الفقر و الحلم التي وسمت حياة الطفل، وقد تغلغلت منمنماتها في ثنايا رواياته، وحظيت بيت لحم ـ مهد الطفولة، ومرتع الصبا ـ بنصيب وافر من استذكاراته التي شهدت تشكيل أولى التجارب والرؤى والأصوات، فاختزن
الصبي منها ما "يمرّ به كل يوم، يعاينه، أو يتلذّذ به". (13).
ارتبطت مدينة المهد في وعي الصغير بـ(المسيحية) رمز المحبة والسلام، كما ارتبطت بـ"الفقر والعوز"، فكان يرى الملاكين الصغار لا يجدون فيها ما يرغّبهم في العيش، فيندفعون نحو شاطئ البحر، ينتظرون السفن التي تحملهم، وبأيديهم مناديل الوداع، ميمّمين شطر المهجر الأمريكي. شأنهم في ذلك شأن إخوانهم، من ذلك الرعيل المهاجر، من أبناء بلاد الشام:
"كان أثر الهجرة بادياً بوضوح، في مطلع العشرينيات في خلوّ الكثير من البيوت والمباني من أصحابها، وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة، غير أن مركز "بيت لحم"، كحاضنة لمهد المسيح أعطاها تميّزاً من نوع فريد، وهيأت لعددٍ كبير من أهلها مورداً سياحياً من الصناعات اليدوية المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين، فكانت تستورد كمياتٍ كبيرة من الأصداف الخام لتحويلها... إلى مسابح وصلبان ومصغّرات لكنيسة المهد، وقبة الصخرة، إضافة إلى العلب، والأطر النفيسة، التي كانت ترصّع بالصدف، ويقبل على شرائها الزوّار الأجانب".(14).
تمثل "بيت لحم" الطبيعة الأولى البكر في مخيّلة "جبرا" فتظلّ ترافقه طوال حياته، لأنها طفولته، التي يسترسل في وصفها، ويرسمها في الربيع، فيستلهم عشياتها، وتتحول سماؤها إلى فضاءات جميلة تغطيها أسراب السنونو التي تفد "في العشيات تعبر الفضاءات اللازوردية، وقد وفدت من جديد إلى الأرض التي تحبّها... عشيات الربيع في بيت لحم. أينما كنا نلعب أو نغني. نروي الحكايات، كانت تصخب بجحافل السنونو، وتعبث وتلهو وتدور وتشفّ عن أسطح البيوت، ثم تعلو السماوات الرحاب، نتابعها وهي تغير وتنعطف وتستدير، ثم تغيّر وجهة طيرانها... وتملأ الأجواء فرحاً وبهجة، نتلقّى فعلها في أنفسنا دون ما وعي، فيشتدّ صخبنا، ونمعن في الركض والقفز ونرفع أصواتنا في الغناء والصياح.."(15).
ولا تمثِّل "بيت لحم" في الذاكرة مكان الطفولة، ومهد المشاعر الدينية فحسب، وإنما غدت مع أختها الكبرى "القدس" الوطن الصغير "فلسطين" تتبوأ في فن الروائي مكان القلب الذي يمدّ السرد الروائي بالنبض، ويضخّ إلى باقي أجزاء الجسد الدم الموّار، الذي يساعد على الحياة والأمل "أما القدس فهي من أكثر المدن حضوراً في رواياتي، ولا تكاد تخلو رواية من ذكر هذه المدينة"(16). إذ تلحّ عليه ذكراها بمرارة بعد ما غادرها إلى بغداد، بُعيد النكبة، حيث وجد نفسه منفياً محاصراً، وهو في ميعة الصبا. لذلك لم تثر بغداد لديه ـ في البداية ـ ماكان يرسمه القلب لها من سحرية المدن الشهرزادية: "في ذلك اليوم الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت إلى بغداد، لم يكن السبب أنني رأيت لندن وباريس والقاهرة ودمشق، لقد نسيت أسفاري وماعدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة أذكرها... أذكرها طيلة الوقت، تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها. تحت أشجارها المجرّحة، وسقوفها المهدّمة، وقدآتي إلى بغداد، وعيناي ما زالتا تتشبثان بها ـ القدس ـ...".(17).
إن "القدس" ظلّت مقيمةً في قلبه، مظللةً بالأمل والحاجة. فالبيت الذي سكنت فيه الأسرة في حارة (جورة العناب) خلّده في روايته (صراخ في ليلٍ طويل)، وقد جعله مقرّ بطل روايته (أيمن) الذي وصفه بتعابير الطفولة: "عندما كنت صغيراً أسكن مع أبي وإخوتي الثلاثة، في غرفةٍ مربعةٍ ضيقةٍ لها شباكٌ صغيرٌ واحدٌ، لا زجاج له. لا أظننا كنا نتذمر كثيراً، فليس جيراننا بأحسن حالاً منا، ولا أقرباء لنا ساكنين في بيوتٍ أحسن من بيتنا، فلا داعي هناك للحسد. كنا قانعين بنصيبنا. لم يشعر أحدٌ منا عن وعيٍ بزراية حالته، وفساد الهواء الذي يتنفسه... أما الشجار فقد كان من التقاليد الراسخة، فقد كنا نتشاجر بحماسةٍ هائلةٍ، ثم نتصالح فيعود الوئام بيننا مع الكثير من المحبة والرقةِ"(18).
يتذكّر "جبرا" ـ بعد أن تحسّن وضع الأسرة ـ البيت الذي أشار على أبيه ببنائه، بعد أن اختار مكانه بنفسه ـ قبيل النكبة ـ فوق جبل "القطمون" الذي يطلّ على الحيّ اليهودي، فكان كثيراً ما يقف في شرفته ويشاهد "أزواجاً من الفتيان والفتيات يصعدن إلى الباب، ويدقون الجرس.
كانوا يقولون إنهم ينجذبون بقنطرة المدخل، وأزهار الجارانبوم التي تكسو الدرج الحجري الأبيض، والنوافذ العالية، بأعمدتها الثلاثية ـ في الطابق الثاني ـ التي كانت حين تعكس الشمس تتصاعد كالشعلة الملتهبة فوق الوادي".(19)، وعلى الرغم من ابتعاد "جبرا" عن القدس فإنها لم تفارق ذاكرته، فلا تزال ضحكات أطفالها يتردّد صداها في سمعه. إنه يذكرها "كآدم يذكر الجنة. فالصبي إذ ينمو، تنمو المدينة في كل زاوية من زوايا نفسه... وصباه إنما هو انعكاس لمئات الطرقات والبيوت والحوانيت والأزقّة والأشجار والبقاع المزروعة التي تخضّر في الربيع، وتصفّر في الشتاء، والصخور المنتشرة في كل مكان، والتي تؤلف المدينة.. أين تنتهي الذات، ويبدأ الموضوع؟ هنا شارع بكى فيه الولد وجاع، وضحك، وعشق فتاة لا يعرف اسمها لأنها ابتسمت له من غير قصدٍ، وركض فيه. في المطر. في الظلام. مع إخوته. مع والديه. مع العشرات من أصدقائه الذين ما زال يسمع في ذهنه أصواتهم المتجاذبة. بين مباني الشارع. مثل هذا الشارع. هل يمكن أن يبقى امتداداً هندسياً موضوعياً مجرّداً؟؟".(20).
إن الذكريات الأولى في القدس ستظلّ حتى نهاية العمر تمدّه بموحيات الإبداع. يذكرها بتفاصيلها الدقيقة، من مشاركته في إضراب عام 1939، ومعاينته بناء الكلية العربية التي درس فيها، ولا ينسى ما عاناه مع أهله من الإرهاب الصهيوني الذي تعرضت له المدينة، حين "شرع اليهود في تدمير القدس الجديدة، مبتدئين أولاً بنسف المقرّات الحكومية، ومن أشهرها نسف جناح السكرتارية العامة للحكومة في فندق الملك داود، ونسفهم أيضاً بعد إعلان التقسيم في تشرين الثاني عام 1947 لمنازل العرب ليلاً، ولاسيما في حي القطمون الذي كان مجاوراً حي "راحافايا"، اليهودي، حيث سكن فيه مع أسرته بعد رجوعه من لندن".(21).
ويتذكّر معلميه العرب الذين درّسوه في القدس، وقد غدوا أعلاماً في الفكر و الأدب والشعر، أمثال الشاعرين: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، و الأدباء محمد خورشيد (محمد العدناني)، صاحب (معجم الأخطاء الشائعة)، وإسحاق موسى الحسيني، وحسن الكرمي، صاحب برنامج (قول على قول) في إذاعة لندن.
ومع تسارع الأحداث ودموّيتها، تعود الأسرة إلى بيت لحم، ولكن سرعان ما تحلّ النكبة، فتلقي بـ"جبرا" إلى بغداد، ليحطّ رحاله في ربوعها، وتغدو المدينة العربية الثالثة دار إقامته الأبدية. إذ كتب للجسد أن يوارى في ثراها، بعد أن وشّى الأندية والكتب والأمسيات بألوان قشيبة لا تبهت ألوانها على مدى الزمن.
و"جبرا"، الذي حمل فلسطين في جوارحه لم ينسَ يوماً الطغيان الصهيوني الذي كان شاهداً عليه ولن تغادر أنفه رائحة اليهودي "تزكم الطفل بالعفن والعطن الغريبين، وأمه توصيه وإخوته بالحذر من اليهود"، "إنهم يسرقون الأطفال في أعيادهم ليذبحوهم، ويمزجوا دماءهم في عجين خبز الفطير، وقبّة "راحيل"، ستبدو دوماً للطفل ذلك الحدّ الفاصل بين المعلوم والمجهول. بين الألفة الغربة، ولن تغادر الطفل حتى شيخوخته صورة الحاخامات، وأصداء ولولتهم الغريبة في القبّة التي تمتدّ بعدها الطريق إلى القدس. إلى عالم الغوامض والأسرار.
وستبدو القدس ـ بعد بيت لحم ـ قوام البعد الفلسطيني في عالم الطفل، وما سيؤول إليه، فمنذ الانتقال إلى دار (فتحو) في بيت لحم، وإذ يشرف "جبرا" مع أخيه "يوسف" على أضواء القدس، يقول الأخير: إنه ضياء مدينة القدس يريد الله لها أن تتوهج في وسط الظلام الذي يملأ الدنيا".(22).
ضمّت المرحلة الحلمية الأولى تطلّعات الفتى الأدبية المبكّرة في التغيير والتطوير، والتي تجلّت في رؤيته الشعرية التي التقت ـ فيما بعد ـ مع جماعة مجلة (شعر) اللبنانية "أيام كنا صغاراً ـ قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى في أوائل الأربعينيات ـ كان الشعر لنا غناءً وطرباً، وكنا نتصارع بأبيات الشعر من خلال الريح، ومن بين الأشجار، ومن على القمم. كان الشعر صنو البراءة. إنه صنو تجربة الفردوس، لا تجربة الجحيم. ـ ولعلني هنا أتحدّث كفلسطيني عرف النكبة ـ فالشعر صرير أسنان وصراخ ألم. الجحيم فلاة منبسطة يمشي المرء إلى ما لا نهاية دون أن يرى شيئاً، لا شجرةً، ولا طيراً. غربان تسفّ وتحلّق وتختفي ـ أحياناً ـ والسير وعرٌ ومستمرّ، والشعر صرير أسنان، وقرح في القدمين، والمصيبة هي أن غير الشعر لا يستحق الكتابة، فحتى النثر، إذا لم يكن بالمنطويات الشعرية، فهو ثرثرة باطلة.
وهكذا بلغنا نقطةً ما عدنا نستمرئ عندها الكلام الموشّى سطحاً. الفارغ قلباً، وفي هذا بلغنا مرحلة تشبه مرحلة الذوق التي
بلغتها أوروبا في العشرينيات الأولى من هذا القرن".(23).
إن "جبرا" في المرحلة الفلسطينية كان مشروعاً شعرياً واعداً، بإرهاصات مبكرة، عانى منها معاناة كبار المبدعين في العالم، كمعاناته من الأزمة (اللفظية) التي عبّر عنها بـ(أزمة الكلمات) فوقف عند الفرق بين رؤية الشاب لها، ورؤية المحترف، فالأول: "يرى الكلمات شابةً نقيةً لم تتهرّأ ـ بعد ـ بالاستعمال، ولكن الكاتب الحساس يرى بعد مرّ السنين أن هذه الكلمات التي هي وسيلته الأولى والأخيرة، أخذت تفقد نضارتها وطاقتها، وجعلت تتهرّأ وتتهافت بين يديه. أغلب الظن أن النضج يفوق أحياناً مقدرة المرء اللفظية، إلاَّ إذا استطاع أن ينمّي الطاقة اللفظية مع نموّه وتفكيره وتعبيره. هل بدأنا نشكّ في أن ألفاظنا أصابها الوهن، في حين أن تجربتنا اشتدّت تأجّجاً وعنفاً، وكانت النتيجة قطيعة بين الاثنتين؟... ربما.
الغريب أن الإنسان كلما كبر، استهجن التعقيد والغموض والإبهام، وتوخّى الوضوح والمباشرة، وأحياناً البساطة، ولكن رغم ذلك فإن الوضوح والمباشرة، والبساطة تختلف لديه عما كان يتوخاه منها في كتاباته الباكرة". (24).
لقد كان الشعر في مرحلة التفتح الأولى حلم الشاعر، ونور غده الذي يستشرف معه الحياة الجديدة، والنفاذ من خلاله إلى الكون، كان مدخله الذي يلج منه إلى عوالم الأدب والثقافة التي يطلّ منها على الإبداع، بأبهى صوره وأجمل رموزه التراثية "لكن صدمة الشعر الغربي ـ الإنكليزي على وجه التحديد ـ التي هزّت كيانه، وصبغت حدقته، وأيقظت قدراته الخلاقة، خاصة لتشابكها مع بقية خيوط النسيج الإبداعي للفنون التشكيلية والموسيقية، مما طبع "جبرا" منذ بدايات حياته على الاستغراق في التجربة الجمالية الكلية قبل تأمّل قسماتها المتميزة في الأجناس الأدبية المختلفة، ومحاولة تحقيقها في إنتاجه، وهو يصف لنا هذا الوله الشعري بالحياة".(25). قائلاً في "معايشة النمرة": "عشرينياتي الأولى، على ما كنت منهمكاً في مطالعته، وعلى ما كنت متعلّقاً به من حركات الرسم و النحت منذ النهضة الأوروبية، حتى ماتيس، وبراك، وبيكاسو، كان الشعراء بعض صانعيها، ومحفّريها ومالئيها، ما افتتنت با مرأةٍ، وما عشقت جسداً أو حجراً، وما أُخذت بفكرة، وما أحببت لوناً، أو خطاً، أو زهرة في الغابات، بين الصخور، على ركام الخرائب مع أروع المباني، إلاَّ وكان في الشعر هؤلاء المبدعون (ويعدّد عشرات منهم)، الدافع الأعظم لعواطفي، لإدراكي، لنفاذي إلى قلب الأشياء جميعاً. كم كان الشعر خلاقاً ورائعاً يومئذٍ!".
إن عشق الشعر ـ هو عشق لشعرية الحياة، والتماس ينابيعها في الشرق والغرب على السواء، ولقد اكتشف ابن الثامنة عشرة ـ بعد إلمامه باللغة الإنكليزية ـ جماليات الرومانسية الإنكليزية، ممثلةً في أشعار (كيتس) الذي ترجم له (أغنية إلى بلبل) و(أغنية عن إناء إغريقي)، وقد لمس فيهما طاقات تعبيرية هائلةً من العواطف تبدّت له أهميتها في حالات : الحب والجمال والحرية.... كما لمس مثل ذلك لدى (شيلي)، الذي أغرم به في باكورة شبابه إلى درجة العشق.
ولمّا كان اهتمامه الأول منصبّاً على الشاعرية الحلمية القائمة على التجديد، فإن رؤاه الأخرى للأدب والفن عامة، لم تكن ترضى بغير التجديد أيضاً، وقد أدرك "أن ما هو قائم ينبغي تغييره من دون أن يتوقّف طويلاً أمام الجديد المنتظر، وكانت له بصيرته التي تدفعه طليقاً إلى الجديد، بل كان له جموحه، الذي يحضّه على اقتفاء آثار جديدٍ غير مسبق، وربما كان هذا المزاج الجامع سبباً في الاحتفال بالثقافة والفن إلى حدود التقديس، حيث الثقافة ـ كما الفن ـ تذهب إلى إصلاح البشر، وتقف فوقهم، وإذا كان البحث عن الجديد قد حقق لقاء "جبرا" مع الرواية واللغة والشعر الحديث، فإن الجموح المنشدّ إلى جديدٍ غير مسبق، فصل بين الجديد والتاريخ، ووسّد الجديد الجامح زمناً إنسانياً كونياً لا وجود له، ومع أن "جبرا" في روايته اللاحقة "صيادون في شارع ضيق"، سيحدّد المكان والزمان، فإن التجريد لن يهجر "مثقفه المتعالي"، الذي يُرى اسماً ولا يرى كوجود ممكن التحقيق.".(26).
لقد كان هذا التجديد محور رؤية "جبرا" بعد عودته من إنكلترا إلى القدس وعمله في التدريس في المدرسة الثانوية التي درس فيها بعد أن تحوّل اسمها إلى (الكلية الرشيدية)، وظهر ذلك في روايتيه اللتين كتبهما بالإنكليزية: الأولى (الصدى والغدير)، ولم ينشرها، والثانية (صراخ في ليل طويل)، التي كتب أصولها في القدس عام 1946 ثم نقلها إلى العربية، ونشرها أول مرة في بغداد عام 1955.
إن لفلسطين في ذاكرة "جبرا" ولهاً لا يعادله وله آخر. وكانت كما قال عنها: "أشبه بشاعرية بصرية يستسلم لها المرء عفوياً"، ولقد كان هذا الوله في السنوات التي يسافر فيها إلى الخارج، تاركاً مكانه الأمومي المتصل برحم الأرض التي شهدت مراتع طفولته وصباه، وكان للنكبة أثرها البارز في تعميق الجرح الفلسطيني في الذاكرة الحية، فتداخلت في رواياته، ولوّنت أجواءها بألوان الحب والمأساة.
ثانياً ـ المرحلة الأوروبية ـ الغذاء الفكري والثقافي:
بين مرحلة الحلم والطفولة الشعرية التي رصدتها "البئر الأولى" وبين إقامته بعد النكبة في بغداد التي رصدتها سيرته الثانية "شارع الأميرات" هناك مرحلة التأسيس الأدبي والفني التي شكّلت شخصية "جبرا" الأدبية والفنية والفكرية، وكانت فترة خصبة من التحصيل الذي أغنى ذائقته وفكره في جامعتي "إكسترا وكمبردج". وحفزّت طموحه الثقافي للتزوّد من المعرفة، فكان على الرغم من إصابته بالرمد في تلك المرحلة نهماً للقراءة، جاداً في التعرّف إلى روّاد الأدب الأوروبي المعاصر، حيث كان لعدد منهم تأثيرٌ كبير على حياته وفنه وأدبه. الأمر الذي ساعده على شق طريقه الذهبي في الدراسة والعطاء الأدبي والترجمة، وقد حقّقت له الدراسة في "لندن" كثيراً من أحلامه، فهناك عرف المهندس الفرنسي "فرديناند دولسبس" الذي استطاع بما أوتيه من درايةٍ وحذقٍ، إقناعَ والي مصر سعيد باشا بضرورة حفر قناة السويس، التي تجمع بين بحرين كبيرين حقّق بها لقاء الشرق بالغرب، وقد ربط "جبرا" بين "دولسبس" العبقري وبين إنسانيته، أو خصوصياته كما رسمها بعناية في "شارع الأميرات"، حيث ركّز على صورة الرجل الكهل ا لذي تجاوز الرابعة والستين من عمره، وأحب فتاة في الحادية والعشرين، تزوجها، وأنجب منها أحد عشر ولداً.
وتعرّف "جبرا" إلى الأديب الإنكليزي "لورانس داريل" الشاعر، في مطلع حياته، ثم الروائي الأكثر شهرة في العالم ـ فيما بعد ـ صاحب "رباعية الإسكندرية" ورسم صورةً جميلةً لهذا المبدع الإسكندراني الذي تأثر به عددٌ من روائيي العرب، أمثال "فتحي غانم"، في "الرجل الذي فقد ظلّه"، و"نجيب محفوظ"، في "ميرامار"، و"غسان كنفاني"، في "ما تبقى لكم"، و"غادة السمان"، في "بيروت 75" و"ليلة المليار"، و"جبرا" نفسه في "السفينة".
لقد كانت المرحلة الإنكليزية رحلة الغذاء الفكري الذي فتح أمامه أبواب الثقافة والحداثة والمعاصرة، وأطلعه على آراء أساطين الفن، وأعلام الأدب في أوروبا، مما أيقظ في نفسه وعياً جديداً صقلته فاجعة النكبة، وزادته قناعة وإصراراً على الالتزام بالتغيير والتطوير، والثورة والحرية، والإصرار ـ نقدياً ـ على وحدة القصيدة العضوية، والتركيب الدرامي، والمؤثرات الأجنبية، من دون اللهاث وراء الصراعات الغربية، والاعتقاد بأن طريق الحداثة يحتاج إلى تمهيد وتعبيد، وتجربة وممارسة ووعي، ترافقه نهضة شاملة، وخلاص من التبعية والتخلف، والتعبير عن روح متوثبة تستوعب العصر وتستلهم التراث العربي، وهذا كله يستلزم الاهتمام بأسلوب الخطاب الفكري عامة والأدبي خاصة، وضرورة تجديد الكتابة العربية، والانفتاح على الإبداع الإنساني، وقد حمّل "جبرا" المثقف والفنان، مسؤولية القيام بدور المجدّد، وطالبه بالبحث عن أسلوب يستطيع من خلاله تصوير محنته، والتفريق بين أزمة الإنسان، وأزمة الأسلوب، بين محنة الأمة، ومحنة الفكر.
لقد احتضنت العاصمة الإنكليزية وعيه الفكري، كما احتضنت شبابه الغضّ، فقدّمت إليه أجمل فتياتها في صداقات وزمالة، داخل الجامعة وفي أماكن النزهة، وقد أتى على جانب من هذه العلاقات في ثنايا سيرته وانطباعاته عن المرحلة اللندنية، كعلاقته المتميزة بـ(غلاديس) الفتاة التي أحبها في سنوات الدراسة، وولع بها كأنثى، وعاشقة شعر: "في أوائل العشرينات من عمري، أيام الحرب العالمية الثانية، كنت أذهب من كمبردج إلى لندن، و(هي) التي كانت تأتي من جامعة (إكسترا) في جنوب غرب إنكلترا، وأنا وهي نحمل كتب الشعر، وأذكر منها قصائد دانتي. "اذكرني وأنا في أنفاق الـ"أندر غراوند"، وقطارات المترو، وأنا أقلّب صفحات ذلك الكتاب الصغير الحجم، المطبوع طبعاً كثيفاً ناعماً، انتقل من قصيدة إلى أخرى... خرائب لندن التي كانت تسبّبها الغارات الألمانية المتواصلة، انتشرت في كل مكان، وأنا أجد "حياة جديدة" في قصائد "دانتي" التي كتبها في مطلع شبابه حباً بـ"بباتريس" وأقرأها على "غلاديس" في شوارع المدينة الكبرى، وما كان أروع ضياعنا في طرقاتها وظلماتها".(27).
لقد قضى "جبرا" في جامعة (اكسترا) سنته الأولى، وفيها تعلّم الرقص، وعرف معنى الحب، ونكهة الجسد الأنثوي الذي ((كان عاصفاً كالريح، وجارفاً كالسيل، فضاؤه الحقول الخضراء، والأشجار البواسق، يضجّ بالجسد كما يضجّ بالروح"(28).
لقد أتاحت له الحياة في (اكسترا) أن يقيم علاقات عاطفية مع أكثر من فتاة في وقت واحد فـ(غلاديس نوبي)، التي طلب إليه صديقها "ستيف دنكرلي" أن يتخلّ لـه عنها لأنه سيتزوجها، ما يلبث أن يضحي له الصديق بها، فيحملها على دراجته، ويقدّمها إلى "جبرا" "وما حدث بقية ذلك النهار، والليلة التي أعقبته لا يمكن أن يروى بسهولة، فقد كان كالحلم، بعضه رعب، ومعظمه لذة، وكله أشبه بالمستحيل"، وسيبلغ التعبير المجازي ذروته حين يشبه "جبرا" شفتي "غلاديس" بفلقتي فاكهة باردة ندية، تذوبان ولا تذوبان على شفتيه.
و"برناديت" الأنثى ذات الستة عشر ربيعاً، عرف لذائذ جسدها الجارفة ولياليها المؤرقة، أما "جين هادسون"، التي تعرّف عليها في أحد البارات، فقد رأت في "جبرا" ـ بعد أن شهدت معه عروض المسرح الشكسبيري ـ "هاملت" العربي، كما تخيّلت نفسها "أوفيليا": "وقضينا أياماً في أحراش شكسبيرية ملأى بشموس متفجّرة".
أتى "جبرا" على بعض العلاقات العاطفية بروح الأديب، وبشيء من التفصيل، "ولم يتحرّج من ذكر الأسماء النسوية ممن كان على علاقة بهن، مع التنويه بطبيعة تلك العلاقة المادية القائمة على حضور الجسد، والخارجة عن نطاق الهوى العذري، في حين نراه يتحرّج من ذكر اسم الطالبة العراقية التي أحبّته، وكانت بينهما رسائل متبادلة؛ استردّتها بعد زواجه من "لميعة" وقدّمت له هديةً ثمينةً، دلالةً على نبلها، كما يتعمّد إغفال اسم تلك السيدة العراقية التي تعرّف عليها في "باريس" وهو في هذا إنما يحاول أن يعبر عن حال المرأة في كل من البيئتين، إذ أن تصريحه بأسماء النساء في إنكلترا إنما هو تعبير عن الحرية الكبيرة، التي تتمتع بها تلك المجتمعات، بينما يتحرّج من ذكر أسماء النساء العربيات، لأن التقاليد والأعراف لا تسمح بذلك، عاكساً حرصه على تجنّب كل مامن شأنه خدش الحياء، شأنه في ذلك شأن أغلب كتّاب السيرة الذاتية العرب، لم يستطع تجاوز القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمع. فالمجتمعات العربية كانت تضع المرأة في عزلة تكاد تكون شبه تامة، فضلاً عن الجهل والقسر، فالأديب هنا يعكس حالة المرأة في بيئته ويؤرخ لحيّاتها في ذلك العهد، وشكل الحياة التي عاشتها، وعاشت معها في المجتمعين"(29).
وكانت زيارات العمل أو السياحة التي كان "جبرا" يقوم بها من حين إلى آخر إلى العواصم الأوروبية والمدن الأمريكية ذات أثر كبير في إغناء ثقافته، وقد تركت في نفسه انطباعات لا تنسى، فـ"باريس" التي قصدها صيف عام 1951 سائحاً، حفرت في نفسه معالم فنها، وثقافتها، فتملّى من (قوس النصر) و(برج إيفل) وحدائق (التويليري) ففرح وبكى لدى رؤيته لوحات الانطباعيين وسواهم في متحف (أورانجري) "أيّ فرح عارم هزّني حتى النخاع! وكما هو شأني كلما فاجأني الجمال، شهقت وفاضت عيناي وأحاول يائساً كبح دموعي...
هكذا كان حالي حين رأيت لأول مرّة لوّحات مونيه، وديفا، ورينوار، وبيزارو، وسيزلي، وسيزان، وفان غوخ، والآخرين.".(30). ولقد وجد "جبرا" في باريس ذلك النبع الذي يروي فكره، ويعطي تجربته بعداً أكبر، بعد ذلك الجوع الثقافي الذي أصابه منذ مغادرته "كمبردج"، "كنت في حركة دائبة، ألعب دور المتلقّي الذي أصابه النهم بعد سنوات من جوع ثقافي منذ مغادرته "كمبردج"، وكنت بدأت أشعر أنني أستنفذ خزيناً ذهبياً لابدَّ من إعادة ملئه، وهاهي المدينة التي تعطيك وتعطيك بقدر ما بوسعك أن تأخذ وتلتهم، وعشقي للفنون هنا ما يغذّيه ويشحذّه كل يوم بمزيد من اللهفة والمتعة".(31).
وما أحسّ به في "باريس" من المتعة والحرية والفن، كان نقيض ما أحسّ به في (أمريكا) التي وصفها بـ(العالم الجهم المكتظ بالبشر)، حين قصدها مع زوجته في زمالة دراسية في جامعة (هارفرد) وما اختزنه في نفسه لها تمثّله الغرفة التي نزلا بها "شقتنا تتألف من غرفة كبيرة واحدة مع حمام، ومطبخ صغير بسيط التأثيث... والكنبة الزرقاء التي نجلس عليها في النهار ـ بالإضافة إلى ثلاثة كراسي كبيرة مريحة ـ تتحوّل في الليل بفتحها إلى فراش، إلاَّ أنه فراش غير مريح، فكّنا ساعة النوم نرفع منها الحشايا والوسائد، ونرتّبها على الأرض فراشاً عريضاً، كنّا راضين به في الجنة السحرية التي اقتطعناها أخيراً لأنفسنا في عالم جهم، مكتظّ بالبشر"، (32).وواضح أن النصّ "يجسّد الوضع النفسي للشخصية من خلال علاقتها بالمكان، فعلى الرغم من ضيق الشقة ووقوعها في بناية ضخمة ذات الشقق العديدة والمكتظّة بالبشر. إلاَّ أنها تتحوّل بوجود
(لميعة) إلى جنة سحرية ضمّت الزوجين لأول مرة"(33).
وبقدر ماكان وصفه لباريس ومعالمها حيوياً، جمالياً وإنسانياً، كان وصفه لمعالم أمريكا خالياً من تعابير التعاطف الإنساني، كما في وصفه لشارعين من شوارع نيويورك هما الصورة الحية للحياة في أمريكا. حيث التباين الواضح بين الفقر والتخلف، والغنى الفاحش للمجتمع الأرستقراطي. فشارع "برودواي" في الحي الشعبي، "طريق متعرّج يقطع الشوارع المستقيمة الأخرى حسبما يشاء، كثير الألوان والأنوار، بادي القذارة، يتعاقب فيه النور والظلام... تملؤه المطاعم الرخيصة التي تضجّ برنين الأشواك والسكاكين، والصحون بين أيدي رجال ونساء كهول جلست الوحشة على وجوههم، وفي الأماكن التي تفضّلها، تجد أغلبية النساء المتوسطات العمر، عجيبات القبعات، في ثرثرة لا تنتهي، وفي هذا الشارع. في خفاياه التي لا يتاح إلاَّ للمريدين معرفتها، تجتمع النفايات الغربية، والمجرمون، والعائشون على ضعف الإنسان، الفقراء والدمامة ألفت للنظر من غيرهما، أمتعة رخيصة، وعواطف رخيصة، وإلى جانب هذا وذاك عدد من أحسن مسارح الدنيا".(34).
أما الوجه الآخر للمجتمع الأرستقراطي الأمريكي، هو الشارع الخامس "ففث أفينو"، "شارع متلألئ النظافة، جميل الدكاكين، شاهق العمارات، يمشي على أرصفته نفر من أجمل حسان الدنيا وأشدّهن أناقة، وتباع فيه أغلى الأمتعة، وأشدّها إغراءً للنفس، وهو مستقيم منظّم، شديد القسوة، عديم المبالاة إلاَّ بمن أوتي كثيراً من المال أو وافراً من الحزن".(35).
وكما أُخذ "جبرا" في "باريس" بجماليات الأمكنة، وسكر بسحرها، فإن للمدن الإنكليزية ـ في نفسه ـ نكهتها الخاصة باعتبارها المدن الأولى التي عرفها بعد فلسطين، وعرف فيها لذاذات الحب، ولذاذات الأدب، وظلّ يقيم لها في ذاكرته المكانة الأولى بين المدن الأجنبية، فمن "أكسفورد" كان يتملّى تمثال الشاعر الرومانسي (شيلي) عارياً غريقاً تبكيه ربّة الشعر، وفي "ستراتفور أون أفون"، كان يجذبه مسقط رأس "شكسبير"، وفي داره التي قضى فيها "جبرا" يوماً رائعاً، تحايل على أمين الدار، واقترف المحظور بأن كتب اسمه على خشبة إحدى النوافذ قرب اسم الشاعر "بايرون"........
لقد عدَّ "جبرا" "ستراتفور..." كعبته التي يحجّ إليها، فتكرّرت زياراته إليها لحضور عروض مسرح شكسبير التذكاري "ذهبت إلى ستراتفور حاجّاً مرة أخرى، لأشاهد في أسبوع واحد ثماني مسرحيات، وذلك بأن أتردّد على المسرح كل يوم، فكنت كل صباح أقرأ نصّ المسرحية التي سأشاهدها في ذلك المساء، وكانت آخرها، وتتويجاً لها (مأساة هملت)، وبقيت نسختها التي قرأتها يومئذٍ محفوظةً عزيزةً بين كتبي، بشيء من (سنتيمنتالية المحب)".(36).
في (كمبردج) وغيرها من الأكاديميات الأوروبية عاين "جبرا بنفسه اهتمام الغرب بأعلام العرب وتراثهم الأدبي والفكري، وتوقّف مندهشاً أمام الاحتفاء الأوروبي البالغ بالرموز العربية والإسلامية، في الأدب والطب والاجتماع والفلسفة و التصوّف، فقادته تلك الدهشة وذاك الاحتفاء إلى مراجعة حساباته الأدبية والفكرية والفنية، فانطلق ـ رغم تعلّقه بالحداثة وتمسكه بالتجديد ـ يمعن النظر في الجذور التراثية للأمة العربية، ورأى فيها جوهر الذات الذي تتحقّق فيه الهوية القومية التي تمنح العربي خصوصيةً وتميّزاً، وتمنعه من أن يكون بوقاً لنظريات الغربيين، أو ببغاءً يردّد مقولاتهم التي لا تعتمد على جذور تراثية كالتي عند العرب.
لقد التفت "جبرا" ـ مثلاً ـ إلى المتنبي التفاتة العربي الغيور، فاستقرأ في شعره تراثاً أصيلاً، وطالع في شخصيته أديباً فذّاً، مناضلاً يقرن القول بالفعل، ويمدّ الجيل الجديد بالأسباب المحفزّة للتطور والتغيير، فنبّه إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالماضي وعطاءاته، ودعا إلى استلهامه والإضافة عليه، بغية تحويل التراث وأعلامه إلى محفزات للإبداع، وبصورة خاصة حين تكون العودة إلى الجذور مشبعةً بقضايا العصر الراهن وأساليبه، وأشار ـ منطلقاً من بعث الثقة في النفس ـ إلى ما يزخر به التراث العربي السردي من خصبٍ، كألف ليلة وليلة، التي وجد فيها الغربيون كنوزاً لا تنضب، وعدّها المثقف الأوروبي مثالاً للسحر والمتعة. وطمح الروائي الغربي إلى إيجاد نماذج مماثلةً لها، يحتذي فيها هذا العالم الجميل المكتظّ بالمثل التي يجسّدها الحب والخير والجمال والحرية والأمل، والثقة بالنفس، وتتجلّى فيها الإنسانية المطلقة.
لقد أخذ "جبرا" على الفكر العربي المعاصر عدم التفاته إلى ألف ليلة وليلة، واحتفائه بها، كالغربيين، وتجاهل تراكيبها وأفكارها وصورها، ومجتمعاتها وعلاقات أفرادها، وأهوائهم النفسية ورغباتهم الجنسية، وعوالم الملوك والسادة والعبيد، والجواري، وغير ذلك من الجوانب الكبيرة التي تقدّم للنقد العربي والأدب المعاصر مادة زاخرة بعطاء لا ينضب "وإذا ما تذكرنا أن الرواية العربية المعاصرة، تركّز اهتمامها على الجوانب السيكولوجية، وتضيف إليها الاهتمامات التركيبية، ندرك لماذا تصبح "ألف ليلة وليلة"، مهمّة مرة ثانية، وخاصة بالنسبة إلينا، وكونها أدباً شعبياً يزيد من قيمتها، فهي تمثل فوران المخيّلة الإنسانية على نطاق الأمة بأكملها، فهو فوران بلا حدود". (37).
إن المرحلة اللندنية صقلت أفكار "جبرا" ورسّخت وعيه بقيمة التراث، وضرورة استلهام قيمه الجمالية والتعبيرية، فأخذ، مثلاً ـ بعد عودته من كمبردج ـ على (فن المقامات) التي نالت إعجاب المعلمين العرب، أنها كانت أدباً للخاصة، ولم تكن بأيّ حال أدباً للعامة، بسبب لغتها المعجمية التعليمية، وهذا ما جعل الغربيين ينأون عنها بأصارهم، ويفضّلون عليها ألف ليلة وليلة، لاحتوائها على ما يثير الدهشة الإنسانية، التي لا يمكن أن تثيرها المقامات، التي تفقد رونقها في الترجمة والنقل... بينما تظلّ الليالي مثار الدهشة وينبوع السحر، وملهمة الأديب ومثيرة القارئ العادي والمثقف.
ومن الطبيعي أن يتحوّل الإعجاب في نفس "جبرا" إلى عشق انصّبت عليه جهوده، فالليالي الشهرزادية أبدعتها الجماهير العربية، التي تحيا بالكلمة، وتنتعش بها، رغم ما تعرّضت له من جوع وطغيان، أظهرتها السيرة الشعبية على حقيقتها: تحبّ وتكره وتجوع وتشبع، لكنها تظلّ محافظة على حيويتها، ووسائل عيشها وهذا ما جعل عالم الليالي "يتسع ويترامى ويغتني ويتشعّب أحداثاً، ويزداد شعراً، ويفيض بشراً، ويتعمّق في ذاتها ويجسّد رموزها، حيث اختزنت ذلك الجوهر الغامض الذي عصيَ على الظلام مهما تكاثف".(38).
حرية الفكر:
شكّلت المرحلة الأوروبية، و(اللندنية)، على وجه الخصوص، جانباً هاماً من شخصية "جبرا"، الثقافية، وكوّنت استقلاله الفكري، فكان أنموذجاً مثقفاً متفرّداً، فاعلاً غير منفعل، ومؤثّراً فيما حوله، فـ"جبرا" الذي لوحظ عليه تأثّره بالفكر القومي السوري (39) في مطلع شبابه،كاد ينقطع للترويج لحرية الثقافة، وحرية الأدب والأديب معاً، فصارت الحرية هاجسه الأول، وربما كان للمجتمع الأوروبي بعلاقاته الاجتماعية مع نسائه، وصلاته الأدبية مع مثقفيه، ومسارحه، الدور الرئيسي في هذه الحرية التي كان من أهم سماتها رفضه للالتزام الذي رفضته مجلة (شعر) ـ فيما بعد ـ وهو أحد كتّابها ـ على الرغم من انطلاقها من الوجودية السارترية، واتخاذها أرضية تبني عليها تطوّرها الفكري، وتطلّعها إلى حيّز (ليبرالي) واسع، استوحته من أفكار حزب (سعادة) القومي السوري، الذي يريد للأدب والثقافة والفنون أن تعبّر عن الحرية الوجودية (40).
إن من أولى معطيات تلك المرحلة الأوروبية، وتأثيراتها على فكره، انحيازه "للمشروع الليبرالي من خلال بعض أبطال رواياته، و.... أكثر شخصيات "جبرا" التي بدت بدايات يسارية تنتهي إلى الليبرالية، وهذا يعني في دلالته العميقة ضرورة الليبرالية، لمجابهة التخلّف والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة، ومع... تفريقنا بين الليبرالية كما في أحزاب وقوى، والليبرالية كما فهمت بشكل عام، أي الديمقراطية، فإن المسألة الديمقراطية تبقى هي الأساس.
قد يكون عهد الليبرالي غير ممكن التحقّق في هذه المنطقة، ولكن التخلّف، والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة لا يمكن حلّه إلاَّ بالديمقراطية. إن تصلّب عود الدولة القطرية التي تزيّف كل شيء، لا يمكن تعريتها إلاَّ عن طريق توكيد الحرية والثقافة والحداثة، أي بوساطة المشروع الديمقراطي، الذي قد يتخذ أشكالاً ومضامين مختلفة، حسب القوى التي تحمله، فرغم فشل بعض المشروعات الليبرالية إلاَّ أن ذلك يؤكّد ضرورة الإصرار على الديمقراطية، أقصد الحرية والكلام والإبداع".(41).
جسّد "جبرا" بعض هذه الرؤية في روايته العربية الأولى "صيادون في شارع ضيق"، التي بدأ كتابة سطورها الأولى في أمريكا، حيث سلّط الأضواء فيها على "الشرائح الإقطاعية الأرستقراطية التي حكمت العراق في الخمسينيات، وكشف عن بذور انهيارها التي تحملها في داخلها، فقد انفصل قسم منها تحت تأثير الحضارة الغربية، ونتيجة انتشار التعليم فيها، وهي تبرز أيضاً بداية تبلور وعي الحداثة، ويصرّ على لعب دوره في التغيير، كما تصور هشاشة هذا البديل، وضياعه المسبق ورخاوته وضعف حسّه التاريخي، كما يبرز في النموذج الماركسي، وفيها نرى بداية دخول الجيش مسرح الفعل الاجتماعي، ونرى الأرضية المعقدة للواقع الاجتماعي العربي. إن العلاقات العشائرية والإقطاعية، إضافة إلى الكبت الجنسي، والتشرذم الاجتماعي، ممثّلاً بالأقليات القومية والدينية، والتي هي مع قيم غرب متحضر، هي التي تسود عالم هذه الرواية.
وهو من خلال ذلك كله، يبرز صلابة الواقع إزاء هشاشة من يتصدّون لـه، ويؤكّد تعاطفه مع التغيير، مصّراً على الحداثة والفعل والصلابة ـ وهي لا تكفي، بل قد لا تعني شيئاً من دون وعي مطابق وحقيقي ـ كبديل هذا الواقع".(42).
إن عالم "جبرا" الفكري والثقافي والنقدي تمثّل في أبهى صوره من خلال الأفكار التي زوّدته بها المرحلة الأوروبية الأولى من حياته، وصبّه في كتابه الفكري الأول "الحرية والطوفان". فكان الـ(منيفستو) الأول لـ "جبرا" المسكون بالحرية، و"العلامة الفارقة في الأدب والفن والنقد ـ هل أقولها ـ السياسة. بل لعل من الضروري أن نشرح ماذا تعني عندما نقول إن "جبرا" يبحث في السياسة، في "الحرية والطوفان"... فهو لا يخوض غمار معركة مباشرة من هذا النوع؛ وهو فقط يبحث في جزء من الكتاب، وفي أهمّ جزء فيه، عن مدى الخطر الذي يهدّد الكاتب في حال لو انفجر السدّ، وغمر الطوفان كل قيم الفنان الحقيقي.
هو يبحث في الحرية، كحرية، كمجموعة مبادئ تشغل أعماق وجود كل فنّان ومبدع. "جبرا" يعلّل المد الطغياني الذي يشلّ الكثير في مجتمعنا الع
Admin- المدير
- عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 13/08/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 16, 2012 1:52 am من طرف Admin
» توبة التائبين
السبت يناير 28, 2012 1:28 am من طرف Admin
» الحماسة في الشعر العربي
السبت يناير 28, 2012 1:26 am من طرف Admin
» Windows Live Messenger 2012
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:29 am من طرف Admin
» الفيلم الدرامي الرائع هليوبوليس
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:14 am من طرف Admin
» ولاد البلد
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:09 am من طرف Admin
» دراسة في شعر الحماسة
الأحد نوفمبر 20, 2011 6:13 am من طرف Admin
» كلام من نور
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:28 am من طرف Admin
» يا رب استجب
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:25 am من طرف Admin