أوقات الصلاة
التقويم القمري
ساعة ماوس
اذاعة القران الكريم
أذكار الصباح والمساء
الوجود والعلامة اللغوية في روايات المسعدي
صفحة 1 من اصل 1
الوجود والعلامة اللغوية في روايات المسعدي
يتناول هذا البحث قضية الوجود وكيفية التأصيل لها من خلال العلامات اللغوية كوجود معبر عن الكينونة الإنسانية، في روايات الكاتب التونسي محمود المسعدي الذي حاول أن يؤصل لوجودية تهتم بالوجود كفلسفة وكتصور خاص للفعل والحياة، وباللغة كضمان لهوية ذلك الوجود وانتمائه الثقافي والحضاري، وكحامل لمقتضيات الكينونة الخاصة بكل وجود. وذلك في تصور مشابه لما ذهب إليه "سارتر" في كتابه الوجودية مذهب إنساني ومعه "هيدجر" من أن الوجود يسبق الجوهر، وهذا يعني عند سارتر أن الإنسان يوجد قبل كل شيء، ويصادف ويظهر في الطبيعة، ومن ثمة يجد ويعرف"(1).
لذلك راح المسعدي يهتم بالوجود الإنساني وبالعلامة اللغوية في خلقها لذلك الوجود والتعبير عنه لأن الإنسان أيضاً نتاج اللغة، "ولا يمكن فهم ذلك فهماً صحيحاً ما لم نسلم بوجود رابط بين الرغبة واللغة، وما لم نعرف الذات نفسها باعتبارها كائناً متكلماً كما يفعل "لاكان" إن ما يعين الوجود البشري بالنسبة "للاكان" تعييناً أحسن من غيره هو أن الفرد يظهر ضمن عالم يوجد فيه شيء ما وجوداً دائماً وقبلياً: أي توجد فيه اللغة"(2).*
وعليه كانت العلامات اللغوية الوسيلة التي اعتمد عليها المسعدي في تصوره للوجود والكون كوجود وللغة في حد ذاتها كتأصيل لذلك الكيان وذلك الوجود في كتاباته، لأنه بغياب اللغة يغيب التعبير عن الكيان ويغيب الخلق.
ويجمع الذين تناولوا اللغة المسعدي بالدراسة على أن اللغة طاوعته واسترسلت له فصاغها كيف ما شاء، وتفرد باستعمالها وتركيبها وانتقاء مفرداتها واختيارها، يقول طه حسين عن لغته: "أما كاتبنا فقد أذعنت له لغته إذعاناً واستجابت له في غير مقاومة ولا عناء وأخشى أن تكون قد استجابت له أكثر مما ينبغي فأطمعته في نفسها وأغرته أحياناً بأن يشق عليها ويرهقها من أمرها عسراً"(3). فكأن اللغة عالمة بما يريده منها فأطلعته عن أسرارها ومعانيها وإمكاناتها وكانت علماً على رواياته بما ميزتها عن غيرها من الروايات، وعنها يقول "توفيق بكار" في مقدمة رواية "حدث أبو هريرة قال": ""تتحرك في النص مشحونة بمادة الفكر الحديث ومثقلة في الوقت نفسه بتوالد معانيها"(4). فكان محولها منظوره للوجود وللحياة، وبعث لهما وبعث للوجود اللغوي متبنياً الفصحى وإمكانية تعبيرها عن أحدث القضايا وأعقد الأمور، لأنها علامات على الأشياء فتكون الأشياء كذلك وليس العكس وهذا ما ذهب إليه "ش س بورس" من "أن العلامة هي شيء ما ينوب لشخص ما عن شيء بصفة ما وبطريقة ما"(5).
وإذا كان هذا دأب اللغة، فإن المسعدي يرى أنها عندما تكون على نسق معين تكون خالقة لوجود من نسق خاص، وموجودة لذات من طراز معين، وإذا كان ذلك كذلك فهو يرى أن اللغة العربية الفصحى هي الكفيلة بالتعبير عمن ينتمي لهذا الكيان اللغوي ولذلك لم يستعمل مفردة عامية في رواياته قط، على الرغم مما ينادي به بعض النقاد من وجود استخدام العامية للحوار حسب نوعية الشخصية. ولذلك لم يورد المسعدي من الألفاظ إلا ما عرف في العربية أنه فصيح ولا يخرج عن هذا الإطار، فلا توجد في رواياته الثلاث مفردة عامية واحدة، فقد أمعن في الفصحى ولم يرد لرواياته غيرها. ولا يدخل فيها الألفاظ الدخيلة إلا ما شاع عن العربية أنها استعملته مثل هيولي: "البهاء المنبث من النور قيل عبرانية أو رومية معربة. وكلمة دهليز الفارسية، وشيطان وأصلها يوناني، وكلمة جهنم العبرية، ومارستان التركية، وصهريج: مكان تجمع الماء وهي كلمة فارسية". فهذه الألفاظ "دخلت في كلام العرب وليس منه"(6). كما هو وارد في لسان العرب لابن منظور.
وتلك الكلمات مع قلتها فقد ورد بعضها في القرآن الكريم كشيطان وجهنم واستعمل بعضها أدباء العربية في القديم "فهو يبتعد عن كل دخيل ومولد وكل عامي فالنتيجة واحدة بالنسبة لجميع هذه الأصناف أن المسعدي يتلافاها ويسقطها من كلامه بحرص شديد".
ولا يميل المسعدي إلى الألفاظ المستحدثة ولا يستعملها إلا في موضع واحد حيث ذكر كلمة هاتف ومذياع في السد، أو هي آلة سيبتدعها الناس يوماً ويسمونها المذياع أو الهاتف"، فالهاتف الذي يستعمل في الاتصالات في العربية يسمى المسرة، وقد استعمل المسعدي كلمة هاتف بمعناه القديم والمذياع بالمعنى الحديث.
وما طرح "المسعدي" العامي والدخيل إلا لأنه لا يرى فيهما أصالته ولا يمكنهما أن يحققا للذات العربية كيانها بعد الذي أصاب الذات واللغة العربية من حملات الاستعمار على شمال أفريقيا، ومحاولته طمس الهوية العربية وتغيير الشخصية بالتركيز على اللغة.
وفي حوار "لماجد السمرائي" مع "المسعدي" يكشف عن سبب تمسكه بالعربية "لأني لم أجد لغة تمكنني من التعبير عن أعمق ما أجد في أعماقي، وأعمق ما أشعر به في باطني، وأعمق ما أستنبطه وأقف عليه بتفكيري من اللغة العربية، هي لغة الدقة وهي لغة الباطن وهي لغة الدقائق في الفكر وفي الإحساس وفي الوجدان"(.
فهو يرى أن اللغة وجود ضامن للوجود تجعل هويته مختلفة عن كيان لا يعتمد هذه اللغة في تفكيره وذلك لإحساسه بالعلاقة الجدلية بينهما وعليه تكون الذات في انتمائها للعربية وطموحها وتحقق ذاتها تختلف في وجودها عن أي وجود آخر تكون لغته غير عربية، ولذلك عاد إلى الفصحى يبث فيها الروح من جديد بعد محاولات الطمس والتهميش التي تعرضت لها، فيعبر بألفاظ كثيرة لم تعد مستعملة الآن ويرى فيها البعض أنها غير مألوفة خشنة، ولكن الجو العام لرواياته وإطارها المكاني وشخصياتها وتكوينها وانتماءها اللغوي ومسعاها في الوجود يكون بلغة الانتماء والتفكير، ولذلك كانت اللغة علامة على كل ذلك، كوصفه الجبل في رواية السد، "نباته كالإبر، وأرضه ظمأى، وغباره كثير، وسماؤه صفراء"(9). مكان لا حياة فيه ورغم هذه الصفات يجب أن تخلق فيه الحياة ويكون ذلك بمحاولة غيلان إنجاز سدّ يروي عطش الأرض ويقضي على غبارها وأشواكها وفي نمائها وحياتها تحول في حياته وفي تغيير واقع الأرض تغيير لواقعه وتحقيق لوجوده.
ومثل هذه المناظر تكثر خاصة في رواية حدث أبو هريرة قال إذ يعود المنظر نفسه في نهاية هذه الرواية "فنظرت فإذا نحن وصلنا جبلاً حزيزاً صعوداً(10). إنه الانتقال في المكان والتحول من مدرك إلى آخر غير مدرك ومن الصعب تصوره وبناء على ذلك يتطلب منه اتخاذ موقف معين.
ويقول كهلان عن البئر "وكنت جعلت عليها عريشاً واتخذتها كنا ومكمناًَ إذا أصبت فيئاً أو سبت سبية"(11). ومثل هذا الفعل وإن كان من الصعلكة والاعتداء قد يكون تحولاً للذات في سعيها وتقلباتها في الحياة.
ومن المفردات اللغوية التي قل استخدامها، ولم يعد لها ميل هذه الكلمات التي وردت في رواياته الثلاث وكانت بمثابة علامات على أماكن ذات طبيعية خاصة وتنتمي لمنطقة جغرافية معينة وبيئة ذات وجود خاص ومنها يتحدد المكان في أدق تفاصيله.
السيفات: سفيه، سفا: ذرت الريح الرمل وحملته.
الحوم: القطيع الضخم من الإبل أكثره إلى الألف.
الدير: الدارات في الرمل بعد أن تهدأ الرياح.
ترهات: الطرق الصغار الغير الجادة، الواحدة ترهة(12).
وعلامات لغوية على فضاء من هذا النوع يتطلب من الذات المنتمية له تفكيراً يليه فعل خاص حتى تتمكن من تحقيق ذاتها وإخضاعه لقدرتها.
ويعود المسعدي لبعض العلامات الشبيهة بالعلامات اللغوية يجعل منها علامات على ما هو معلوم لدى الذات وما غاب عنها وعن التفكير وصعب على النفس تحديده، فيخترع له كلمات جديدة غير معروفة، مبهمة، ولا تخضع للميزان الصرفي المتداول تنفر منها الأذن ويتعطل اللسان في نطقها ولا معنى لها إلا ما تتطلع إليه هذه الذات في رواياته وتسعى إلى تحقيقه، وهذه الألفاظ واردة في إنجيل (صاهباء) وتسابيح الرهبان في رواية السد، والذي جاء ما يقرب من الفصل فيها على تلك الصيغة، إنها إشارات للوجه الآخر للوجود الذي لم يولد بعد وهي كوامن الذات وتشابك المعقول باللامعقول والغيبي بالواقعي.
ومن ذلك ما ورد في "حدث أبو هريرة قال" وما تقوله هذه العبارة في رطانة حادة، "فكذب وعصى (بنضلد لم) ثم أدبر يسعى (بنهرتلغم) فحشر فنادى (برآنهندم) فقال أنا ربكم الأعلى"(13). وهو خلق على مستوى العلامة اللغوية وأصواتها وتحد في مستوى فعل الشخصية الروائية وطموحها لذلك دخلت البربرة على الآية القرآنية ]فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُكُم الأعْلَى((14).
وإدخاله لهذه الكلمات على هذه الآية القرآنية ــ مع العلم أن كلام الله منزّه من ذلك ــ لأنه يريد أن يبيّن وجودين مختلفين لبطله وقد ألمّ به الشيطان في النوم. فالحلم يختلط فيه الوعي باللاوعي، ومنطقه غير منطق اليقظة وبالتالي الوجود فيه مخالف لوجود الواقع.
وفي رواية السد يرتّل الرهبان سدنة "صاهباء" هذه التراتيل:
مدرا دافق
ظنوى غافق
بركم الضناهم
كعفر الجلاهم
عميا دافق
فضوى غافق(15)
فقد جاءت هذه التراتيل التي يركبها المسعدي من أصوات لغوية دون أن تدل على شيء سابق معروف في اللغة، ولا يخضع يعضها إلى مقاييس اللغة العربية، وبها إبهام سجع الكهان، الذي يظهر فيه الرهبان سدنة صاهباء في دعائهم وترتيلهم وأصواتهم المبهمة التي جاءت عمداً غير دالة على معنى، "لأنها لغة الذين ليس لهم ما يقولون، بل الذين ليس فيما يقولونه شيء يستقيم للعقل وللمنطق"(16).
وكأنه نوع آخر من الوجود للعلامة اللغوية في إيجادها لعالم غير منطقي وغير معروف "فاللغة لا تشتغل أبداً وبصورة عملية عبر صورة بسيطة ذلك أن الكلمات المحاكية للصوت "ONOMATOPIE" التي يكون الدال ضمنها من حيث مادتها الصوتية وبصورة تقريبية هي الصورة السمعية للمدلول الذي تصحبه خصائصه ترتبط هي نفسها بالرمز أكثر من ارتباطها بالصورة"(17). بينما تخلو رواية "مولد النسيان" من مثل تلك المفردات وهي أكثر إغراقاً في الفصيح المتداول من الروايتين السابقتين، ولذا كانت الفصحى في رواياته علامات دالة على نفاذ عقل باستعمالها ومطاوعتها في نظمها وتركيبها على أنحاء وطرق كثيرة:
فإذا كانت هذه الروايات في العصر الحديث وبعيداً عن عصور العربية القديمة فإن العلامة اللغوية جاءت مرتبطة بالتراث الشعري وبالنثر العربي القديم وبالبيئة العربية الإسلامية، كاستعمال المسعدي لأسماء ذات دلالات قدسية: كالكعبة، والحجر الأسود، وغار حراء، والمدينة، وأبو هريرة، وإكثاره الاقتباس من الألفاظ الواردة في القرآن: كفعل مار: (ترهيأ، أي تحرك وجاء وذهب، ماجت، من قوله تعالى: ]يَوْمَ تَمُورُ السَمَاءُ مُوْراً وتَسيرُ الجِبَالُ سَيْراً[(18) وكلمة كثيب: تلال الرمل، وفي التنزيل العزيز: ]وكانَتِ الجِباَلُ كَثيباً مَهِيلاً((19) أو فعل كشط )وَإِذَا السَمَاءُ كُشِطَتْ((20).
والفعل نفسه يذكر بقول الشاعر:
ومستنبح تستكشط الريح ثوبها
ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
و]حجارة من سجيل[، و]خلق الإنسان هلوعاً[، فكل هذه الألفاظ واردة في القرآن الكريم. ولفظ يسح الذي جاء في قول امرئ القيس:
وأضحى يسح الماء عن كل فيقة
يكب على الأثقال دوح الكنهبل
أو كلمات ضاربة في القدم راسمة لإطار المكاني أو الشخصيات في رواياته، مثل تلك الرمال الندية وتلك الأودية بها صدى هواتف الجن. ومعاجيل: النخيل التي تنتج قبل أن يستكمل الحول. أو لفظ والهة: شديدة الحزن على ولدها. أو صورة هذه الجارية المتعبدة والتي يضفي عليها صفات روحية وحسية، ليس بالإمكان تخييلها إلا من خلال اللغة، وكأن وجودها في تكوينه الجسدي والروحي ما هو إلا صورة أخرى للعلامة اللغوية وفيها يقول:
"رأيتها متفتحة إلى الشمس كالذائبة لذة"(21). فهذه الصورة يتم إيجادها من خلال اللغة التي تصور الأشياء بطريقتها الخاصة، وتجعل منها جارية من نموذج خاص، فتناسب هذه الرموز اللغوية وتكاثف علاماتها هو الذي يصور الأشياء على النحو الذي تريده ويرتبط بمنظومتها، تقول ميمونة في السد لغيلان: "فما قدر لك غير الشروع كبعض الأفعال من أخوات كاد"(22). فما تقوله ميمونة هو من أمارات معرفتها بقواعد اللغة واستعمالاتها، يوافقه فهم عميق منها لحال غيلان في بحثه المستمر عن الوجود، إذ كان لا يكاد يشرع في فعل حتى يتركه لشروع في آخر وهذه من صميم وجودية نيتشه، وتكون القاعدة النحوية هي الأخرى دالة على أفعال غيلان بطل رواية السد.
وينم ذلك على تمازج بين فكر المسعدي واللغة وبين مختلف استعمالات الكلمة والحروف ومعانيها، فإذا حدث وأن تكررت الكلمة نفسها مرات عديدة في السياق، فإنها تأخذ في كل مرة معنى جديداً، ففي حديث الكلب ترد كلمة (أصاب) عدّة مرات في كل مرة تتجلى بمعنى يختلف عن المعنى السابق له، يقول كهلان: "أرحمه فأصيب فيه ثواب المغيث"(23). فأصيب هنا تعني أنال جزاء وثواباً، وفي قوله: "هل أصبت في طريقك منفرداً"(24). يريد القول هل لقيت في طريقك، والكلمة نفسها يصبح لها معنى آخر يختلف عن معناها السابق "وكانت تصيب أبا هريرة عند هاجرة كل يوم نوبة شديدة"(25). فكلمة تصيب في هذه الجملة تعني تنتابه حمى شديدة. ويرد فعل "أدركت" بمعنيين مختلفين في موضوع واحد في مولد النسيان "أدركتك قبل أن تفوتني بلا رجعة" لحقت بك. "أدركت أنك لم تنس أسماء"(26). عرفت وتأكدت.
أو استعماله لفعل قال في السد:
"سألتها فقالت: أنها تتطهر" بمعنى أجابت.
"جاءها يوماً فقال: إني راحل عنك"(27) يعني أخبرها.
"فقالت وما طريقي بعدك؟ (سألته) فقال: العقبة الوعرة" أجاب.
فهذه الدلالات المختلفة هي وجود دلالي لا نهائي، وبالتالي متجددة بتجدد وجودها داخل السياق وحياتها ترتبط به، ولا وجود لدلالة سابقة عن ذلك، فهذه الكلمات تعني شيئاً، وتقول شيئاً آخر، لأن المعروف عن الألفاظ لكونها رموزاً لغوية في حالة نسيان دائم لماضيها الدلالي، ومن خلال استعمالها تكتسب كيانها ووجودها.
وتتواءم مكونات اللغة وما يريده أبطال روايات المسعدي، فتكون معبرة عمّا يفكرون فيه ويشعرون به ويختلج في سرائرهم، فعن شعور خاص لمدين في "مولد النسيان" يقول: "وكنت تجعلين نعومة يديك على فمي كالمنى تسري من القلب.. ألا تقتربين.. فأجد لين أيام كنت معي في الحياة"(28). فهو يشعر أنها كانت معه في الحياة ولم تعد كذلك، ولم يعد يجد طعماً معها لهذه الحياة لأن الموت يطارده ويبحث له عن الدواء فلا يجده فعساه يجد الحياة عندها، ويدعوها كي تشاركه في البحث عن ذلك الدواء مصدر الحياة.
فالرموز اللغوية ميالة إلى ما يريده الأبطال وتسمح به هي عن نفسها، كموضوع الحديث عن النفس وبما بها من أحزان وآلام وتوافق الألفاظ الدالة على الكآبة وعدم الاطمئنان مع الحالة النفسية لمدين الذي يقول لليلى: "ثم نظرت فإذا الأحلام فانية والأماني ترحيها شديداً رحى الزمان وتذروا هباءها ليالي وأيامي"(29). فما تجيزه اللغة هو الذي يرحى ما لا يرحى كالأماني والأحلام مثلاً، ويجعل للزمان رحى معها يقضى على كل شيء، وهذا تعبير عن صيرورة كل شيء للفناء بدائرة الزمن الذي لا يفنى، وكأن الأشياء خلقت من العدم وله، وحياتها في عدمها.
وحين يتكلم "أبو هريرة" عن الخمر يصبح لها وجود مختلف عن المألوف، فيتطلع لضياء لون الخمر في أحشائه، فكان "أبو هريرة" في حديث الوضع "يبعث بكأسه في النور" ويقول: "يا لهفي على خمر تغشاه ظلومات الأحشاء وددت والله لو تبع البصر ضياءه فيها"(30).
ولما كانت رواياته عن الخلق والفعل والسعي لتحقيق الكيان وفي ذلك بعث للوجود فإن اللغة كانت في هذا الشأن حادة اللهجة شديدة قوية الرمز تفوح برائحة التحدي فهذا غيلان يفصح عن إرادته في السد: "سننشئ وسنخلق، سنعلم هذه الأرض الشجاعة والعقل والبأس، والشدة، ونهز أهلها هزاً... ونستخدم نبيّهم ورجالهم ونساءهم وحتى "صهباءهم" ومالهم من قدرة.. وننفخ في كل شيء حياة"(31). إنه وجود في مستوى اللغة يؤكد عزيمة غيلان فالأفعال المتتابعة والمفعول المطلق هزاً، ودلالة العبارة على المستقبل مع شدة في لهجة المفردات، إذ سيسخر كل شيء يمكن أن يكون في الكون لإرادته، وهذا ينبئ بتكامل بين الفكر واللغة والإرادة في هذه الرواية، ومنه ينطلق المسعدي في "محاورة مبادئ ومفاهيم حيث لا يمكن أن يعبر بغير تلك اللغة، ولا يمكن أن تكون لها أفكار غير تلك وإلا انهار السد"(32).
فطريقة تركيب الكلام، واستعمال الكلمات في الجملة دليل على أنه ليس للكلمة قيمة تعبيرية، وبالتالي وجود ما لم تترجم عن الذات وكيفية إدراكها الأشياء، وحسن تنسيقها يعطيها الحركة ويبث فيها الروح فتسري الجمل بالأفكار، وبما يختلج في النفس من أحاسيس، كالحيرة والاندفاع، والطموح.
فما هي طريقة المسعدي في جمله وكيف يركبها؟.
إن الجمل من حيث الشكل طويلة، وأخرى قصيرة ومن حيث التركيب اسمية وفعلية، وأكثر ما يستعمله المسعدي في روايته الجمل الفعلية "فالجملة المبدوءة عنده بفعل تفوق الجملة الإسمية"(33). والسبب في ذلك أن روايته ترتكز على الحوار والجدل، وموضوعاتها تتعلق بالفعل والخلق، وفرض الذات لوجودها، ومحاولات الأبطال تحقيق أهدافهم لا يكون إلا بالحركة والفعل، وشخصية مثل أشخاص المسعدي وقد قال عن بطله: كان كالماء يجري لم نقف له في حياته على وقفة قط.
فالوجودي لا يعرف الاستقرار والثبات والتوقف وإلا كانت نهايته، ومن كانت هذه طبيعة حياته، فكيف يمكن للمسعدي أن يرصد حركاته دون اللجوء إلى اللغة من خلال الجمل الفعلية التي تتطلبها مثل هذه الحركة الدائبة للشخصية، وما تميزت به موضوعاته من صراع بين الحياة والموت، وبين الحركة والسكون، والتقاعس والإرادة، وبين أن يكون الشخص أو لا يكون، وبين الغلبة في الحياة من عدمها.
ولهذه الجمل الفعلية عند المسعدي "استعمال خاص، فهي قصيرة تكتفي بفعل وفاعل ومفعول به"(34). وذلك حينما تكون الأحداث سريعة ويكون الصراع شديداً بن الأبطال فيما بينهم، أو بينهم وبين ما في الكون، يقول غيلان:
ــ دعي يا ميمونة الخيمة
ــ إلى أين؟
ــ نطلب فرجة وفسحة(35)
لقد كان غيلان في ضيق وقلق، وهذا الحوار تعبير عن قلق الوجودي من التخييم أي حط الرحال والثبات، وبالتالي طلب من ميمونة أن تخرج معه حتى يتخلص من السكون الحاصل وتتخلص معه ميمونة من ركونها في الخيمة، ومن تشاؤمها.
ويخاطب مدين أسماء فيقول لها: "صارعت الموت، وناصرت الحياة، قالت: احذر فإنه من صارع الموت قد مات"(36).
فمدين يخبر أسماء بما فعله بعد رحيلها عنه، فحصر فعله في (صارع) و(ناصر) وبهذه الصيغ الصرفية الدالة على الاستمرار وقضاء وقت طويل في البحث عن إكسير يقف في وجه الموت ويضمن له الحياة، وحاول كثيراً ولم يفلح في إيجاد دواء وما تغلب على الموت.
وهذا النوع من الجمل الفعلية القصيرة "في حديث أبي هريرة قال: "قليلة لاعتماد على السرد والوصف، وطغيان رواية الخبر مما استدعى استعمال الجمل الفعلية الطويلة، وهي التي لها إمكانية التفسير، ومناقشة القضايا وتحليل تشعباتها، من ذلك ما ورد في حديث الحق والباطل" فدخلنا عليه مرة فوجدناه بفناء بيته وقد بسط فيه فرشاً خفيفاً، وجلس فأطرق وسجا، فسلمنا وقلنا وقد أدركنا فيه هماً باطناً، فيمَ هذا الوجوم"(37).
فقد تتابعت أفعال ثلاثة "جلس وأطرق وسجا"، وذلك لبيان الحالة التي أصبح عليها "أبو هريرة" فهو في حالة أخرى من الوعي غير واعٍ بما يجري حوله فقد دخلوا عليه وسلموا وسألوه عن سبب سكونه وإغراقه في التفكير وهو لا يجيب.
وفي السد يدور الحوار بين غيلان وميمونة عن العقبات التي اعترضت السد، وجهوده وإقامته، وانتصاره على العقبات، فتطول الجمل لسببية ترتبط بالأفعال، ولسببية أخرى ترتبط ببناء السد، تقول ميمونة: "ثم ألم ينفجر عليك ماء دافق في الشهر الثالث جرف أعلى سدك وحطم شهرين كاملين من عملك وجهودك. غيلان: بلى ولكننا تألبنا على المياه، فرفعنا ما حطمت وعمرنا ما أخلت ورددنا السيل ونفينا الجرف"(38).
فقد اضطرت ميمونة لاستعمال أفعال دالة على خيبته من مثل: انفجر، جرف، حطَم، وهي علامة على الفشل وتحطم بناء السد وجهوده، وبالتالي مرحلة من وجوده ليعارضها بأفعال غاية في البأس والتألب على ما هو حاصل من مثل: تألبنا، ورفعنا في مقابل انفجر، وعمرنا ونفينا في مقابل جرف، ورددنا في مقابل حطم، ويبين هذا عن صراع حاول فيه كل واحد منهما أن يقنع الآخر بمنطقه، فيقابل غيلان كل فعل تستعمله ميمونة بفعلين غاية في التحدي وإذا كانت هي قد استعملت المفرد فقد عارضه بصيغة الجميع مع الضمير "نا" نحن الدال على الوحدة والقوة أيضاً.
وبتعدد الأفعال وتعاقبها تحدث عنها الاستنتاجات والاستجابات، فتداعت الأفعال "تألبنا" ورفعنا و"عمرنا" فأدى ذلك إلى فعلي رددنا ونفينا، ويكشف طول الجمل هذا إصرار غيلان على الفعل واستمرار فيه، وعناد الوجودي للوصل إلى المبتغى دون كلل، ومواصلة الدرب لتحقيق الذات، ففي تألبنا على المياه، سيطرة على قوى الطبيعة، وفرض للذات لذاتها في الكون حتى أمام طوفان المياه.
ويحدث مدين ليلى عن الروح بعد أن تتخلص من الجسد وقد "ذهبت هائمة، يسكنها الزمان وتحيرها الذكرى، ويزورها ما انقضى من حياتها يتحرك فيها ما ضاع من آراء وأحلام وأفراح إلى الأبد، فإذا همت أن تقف وتستريح لدغتها عقرب الزمان فسارت"(39). فتلك الروح أصبحت هائمة لأن الذكرى تحيرها، والزمان يحركها، فهي لا تكاد تقف حتى تلدغها عقرب الزمان فتعود إليها الحيرة من جديد؛ حيرة على ما ضاع منها فلم تتمكن من تحقيقه، ولو حققت آراءها وأحلامها وآمالها ما حل بها ذلك، ففعل "لدغ" في الجملة طابق بين فعل الوخز والحركة، فمع اللدغة تقفز الروح سائرة في حركة دائمة لا تعرف السكون، لأنها مسكونة بعجلة الزمن، وإذا كانت هذه حال الروح بعد الوفاة فما بال صاحبها راكن إلى السكون وهو على قيد الحياة.
وهذه الجمل الفعلية تكون منفصلة حيناً وتكون متصلة بالجملة الاسمية أحياناً أخرى. فإذا كانت هذه وظيفة تلك فما وظيفة هذه؟.
للجمل الاسمية القصيرة والطويلة دورها في كتاباته، وهي ثرية بالدلالات المختلفة، مساهمة في بلورة معنى الوجود، فيرد فيها فقط ذكر ما تحتاج إليه، ويحذف منها كل لفظ زائد، تقول ميمونة "الذئب صوتك يا غيلان" فهي تعني عواء الذئب، فقد حذفت كلمة عواء في الجملة، لتكون دالة عن عمق الحالة النفسية التي كان عليها غيلان، وكشفت ألمه في هذه الحياة، فالذئب دائم العواء وفي جوع مستمر، وكذا غيلان في توقه للفعل، وهوسه ببناء السد.
وقالت ليلى لمدين "في مثل هذا العشي" إن ما دفع ليلى أن تخص تلك العشية بالحديث لأنها عشية تختلف عن عشية الأمس، ولها نظير في السابق، وإنها استهوت ليلى فأعادت إليها ذكريات سابقة، وعبرت الجملة عن جديد مضى وقديم استجد، حالة نفسية سابقة وأخرى آنية شبيهة لها وفي ذلك إشارة لعبثية ما يقوم به مدين فتذكره بالماضي يعود مرة أخرى.
وسألت ريحانة أبا هريرة عن السبيل الذي اختاره لنفسه، فقال: "العقبة يا ريحانة"، فلم يضف المسعدي إلى هذه الجملة أي فعل أو كلمة أخرى، واكتفى بعبارة العقبة يا ريحانة، لأن السبيل الذي اختاره صعب بالنسبة لهما، وترمز هذه الجملة من قصرها الشديد إلى أنه سيتركها بعد أن كانت سكناً له، هو لا يحب السكون ومن كانت هذه حاله فإن حياتها ستكون صعبة معه ومن دونه، لأن لكل وجهة في الحياة، فقد اختارت الثبات وفضل هو الحركة والصعود وعليه ستكون حياته أصعب لأنه سيكون كالسالك طريق العقبة.
فهو يحذف من الجملة كل ما من شأنه أن يجعلها أكثر طولاً مما تضمنه من معنى، فيعبر بأقل الكلمات عن أغراضه التي يريد التعبير عنها.
وفي مولد النسيان يتحدث مدين عن طبيعة "رنجهاد الساحرة": "فيها احتقار للناس غاية"(40). والتركيب العادي لهذه الجملة يتطلب أن يكون على النحو التالي: فهي تحتقر الناس غاية الاحتقار، فهو يحذف التكرار، ويركز على كلمة "احتقار" ثم يأخذ الصفة "غاية" ليبين مدى احتقارها للناس، فكأن الذي يلجأ إليها محتقر لذاته متخلّ عن وجوده.
ويقول غيلان: "لا حاجة إلى مأدبة" وكان يمكن أن يقول لا حاجة لنا في إقامة مأدبة فخلص بذلك جملته من الألفاظ الزائدة التي لا تضيف شيئاً للمعنى، فيحقق غرضه بأسرع ما يمكن.
والواقع "أن الفرد لا يمكنه عندما يتكلم، سوى تمرير حاجته المزعومة يريد إرضاءها عبر بعض الطلبات، أي عبر اللغة. والحال أن هذه الأخيرة خارجة عن الذات، وهي دائماً موجودة ــ هنا قبلاً ــ لدى مجيء الذات إلى العالم"(41). ففي خروج أبي هريرة هائماً على وجهه، وموت الجهات الست عنده، وعدم قدرته على تحديد وجهته، انغلاق لسبل الحياة أمامه وعدم جدوى مسيرته، وضياعه فكراً وزماناً ومكاناً، فكان يقول في حديث العمى: "لقد ماتت الجهات الست. أو يقول من ضاعت قبلته فليسر ولا يطلب شرقاً ولا غرباً"(42). وهذا ضياع وجودي كلي على مستوى الشخصية، وبالتالي أدى إلى انعدام في مستوى الإدراك وليس انعدام في مستوى الواقع فالجهات موجودة ولكنها لم تعد مدركة من قبله، ولم يعد لها وجود، ولكن اللغة عبرت عن ذلك اللاوجود.
ولما كانت اللغة هي ركيزة التفكير وأن الإنسان يولد وهو مزوّد بملكات لغوية وراثية تخص انتماءه، فإنه عبر عمّا يريد بطرق شتى وألفاظ مختلفة القصد الواحد وإن كان المحمول مختلفاً، من ذلك قوله في حديث المزج والجد "قد قاما واضطرما كرمال الكثبان نشأة الريح" والمعنى قريب منه في موضع آخر من الرواية ذاتها "حتى رأيتهم كالسافيات تنفضهن الرياح" وهذه الصورة ترد مرة أخرى في حديث الطين: "واد.. لا تبرحه المعصرات المعميات" فكل هذه الصور على الرغم من اختلاف أسلوبها تعبر عن الرياح تذرو ما تجده أمامها، ففي تأصيل المسعدي لهذه الجمل أصالة القدماء، يقول محمد العلاوي عن سمة الجمل عند المسعدي أن "له من أناقة القدماء نفوره من التشعب في الجملة، أو اقتصاده في تعريفها فالجمل الطويلة أو المتلازمة قليلة باستغنائه في جملة عن الموصلات الكثيرة، ويكون النعت أو الجملة الحالية هي البديل الذي يغنيه عن التشعب في الجملة".
كقوله "وجلس إليها مدين في اطمئنان وسكون"، فالجملة الأخيرة تبيّن حالة كان عليها مدين ولم يستعمل فيها اسماً موصولاً، أو يكرر فيها فعلاً قد يزيد من تشعبها وطولها.
ولا يعني ذلك عدم استعماله للجملة الاسمية الطويلة، فهو يستخدمها بكثرة "وتربط في غالب الأحيان بالجملة الفعلية بواسطة حرف إذا الفجائية"(44)، وهي سمة غالبة في جمله وتلعب دوراً أساسياً في الربط بين الجمل، تقول ميمونة وقد رأت السد في نومها: "ثم إذا الجبل أمامي، فيتحرك وتمتد يداه، فيدفع الجماجم دفعاً دوياً، وإذا الجماجم تنفلق في شبه الصيحة.. وإذا الجبل يتقدم نحوي"(45).
فكأن زلزالاً يقتلع السد لذلك تعاقبت الأفعال ناقلة للأحداث ووقعها بسرعة مع قوة تأثيرها تطلب استعمال "إذا" التي تفيد هنا المفاجأ في تدافع حجارة السد التي كانت بمثابة جماجم لأنها تحمل أفكار غيلان وتدابيره.
وفي غاب "رنجهاد" نظر مدين "فإذا هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي ثم تكتسي لحماً وألواناً"(46) فإن "إذا" هنا تعبر عن الفزع الذي أصاب مدين في غاب رنجهاد الساحر، فهو ما كاد يستقر نظره على هياكل من رميم حتى فوجئ بها تعود إليها الحياة، وكأن أمنيته ما تحققت إلا في عالم السحر الذي لا يؤمن به وهو أيضاً عالم الغيب يحدث فيه كل شيء.
وفي "حديث البعث الأول" يصف أبو هريرة منظر الفتاة وهي ترقص "جعلت الفتاة تدور أو تقف وتقوم وتهبط فتقع في هيأة الساجد فإذا هي قائمة أو ترتفع فإذا هي ساجدة"(47). فما أفادته "إذا" في الجملة دقة الحركة واسترسالها في شكل معين بين الوقوف والجلوس، وتعلق أبو هريرة بهذه الفتاة ما هو إلا تحول منه عن السكون وكان له ميلاد جديد مع هذه الراقصة.
إن ميل المسعدي إلى هذا النوع من الجمل لما لهذه الصيغة من تنويع في دلالة الجمل على الأفعال الخاصة، ومن تأكيد على رمزيتها، ومن بث لروح الحركة في الفعل وفي الجملة، ومن تجديد لها بتجدد الوجود.
والغالب في رواياته هذا النوع من التراكيب والجمل، الذي تكون فيه الجملة الأولى تتميز بالسكون، كركود وسكون الخانعين غير المتطلعين من كثير من شخصياته، وعلى عكس الجملة التي تليها إذ تتميز بالحركة، فتتلاحق المعاني مسترسلة وراء بعضها بانية للفعل، أو مطورة للذات، أو معبرة عن سعيها في البحث عن كيانها وعدم الاستسلام لأي عائق، أو معرفة للثبات، وذلك شأن الوجودي في هذه الحياة.
ومن سمات لغة المسعدي التقديم والتأخير في الجمل فيعينه ذلك على تغييب المعنى والقصد الذي يريده، فهو في السد يصور نفوس القوم الذين رآهم غيلان عندما ذهب إلى الوادي "إنما هم قوم أفعمت نفوسهم مياه كاذبة"(48). إن الماء الذي يرده غيلان هو ماء التطهر الذي يجدد النفس روحها وحياتاها ويغسلها من كل ثابت ويحولها من حال لآخر، بينما النفوس في هذا الوضع، هي التي أرادت أن تكون نفوساً كاذبة تخيلت أنها تسقي ماء، وليس الماء هو الذي يملأ هذه النفوس فهي تعيش راضية بوضعها في وادي القحط.
وفي الرواية نفسها في "حديث العدد" قام أبو هريرة ينصح أحياء العرب: "فأنتم راضون؟ أما أن ترتفعوا إلى الشدة والبأس، ألا توقدونها حمراء ليس يردها جان ولا إنس"(49).
وأهل ذلك الوادي بطبيعته الموحشة القاسية وإذعان أهله للربة، وعبادتهم للقحط فقد استسلموا للفقر فدعا أفراده إلى الوحدة والثورة على واقعهم، فخرج بهم إلى الصحراء، يعلمهم كسب حياتهم وطريقة فرض وجودهم، وهو في دعوته هذه لهم شبه بدعوة "نيتشه" الذي يقول: "إني بحاجة إلى رفاق أحياء لا أموات أحملهم حيث أريد"(50).
وقالت ريحانة في حديث "التعارف في الخمر": "فحامت عيني فلاح لي وراء الجبل دخان كلا دخان"(51). تداخل الصور والموجودات وتماهي الأشياء، فلما أجالت نظرها، رأت من بعيد جبلاً ومن خلفه رأت شيئاً يشبه الدخان وليس بدخان، فكما يجري الحدث في الواقع تنتظم العبارة اللغوية في التركيب فتتأخر عبارة "دخان كلا دخان" الواقعة فاعل، لسببين أن الجبل أول ما رأت وهي متأكد أنه جبل وأن الدخان لم يكن واضح المعالم فتأخرت رؤيته.
كل ذلك دليل على أن المسعدي يعتني بالفكر واللغة والدين الذين يتبناهما فيعبر بمزاوجة بين المستوى الدلالي والتركيبي، فيؤدي ذلك إلى بعض الاستعمالات الخاصة للغة المعبرة عن تصور الوجودي للكون ففي السد، يقول غيلان عند وصوله الجبل: "إنه الجبل... وليس بجبل"(52). فالجبل الذي وصل إليه مرتفع من تراب يخلو من كل حياة، وهو يريده جبلاً يحبس الماء، وبالتالي يكون مصدراً للنماء والعيش والحياة.
وأغفت عين مدين في مولد النسيان "فكان منه كالنوم وليس بالنوم"(53) وهذا النوع من العبارات يصور حالات اليقظة والنوم أي بين الوعي واللاوعي وهي في الغالب حالات شعورية تعيشها شخصيات روايته. وكل هذه الأنواع من الجمل يوشيها السجع، ويبسط عليها جناحيه فيسيء إلى المعنى فتخال الجمل موزونة مقفاة كأنها شعر، فقد خرج مدين في مولج النسيان دون أن يحدد لنفسه مسلكاً، "فإذا مدين هائم على غير هدى انصرف من بيته فعدا، ثم تمهل فمشى، وخرج من باطن دويه فأصغى"(54). فهو يجري في الغاب تحمله رجلاه حيث لا يدري، فيتمهل ويمشي، وتهزه هواجس نفسه فيتوقف ليصغي لها، محتاراً بين كل ثنائيتين لغويتين وجوديتين.
وفي حديث القيامة يسمع أبو هريرة ريحانة تغني:
"هذه الدنيا إناث
كلها تدعو الذكور
يسمه منها لهاث
بدؤه بدء الدهور
أساف ونائلة
كم أردنا الروح فيضاً
جارفاً صخر السدود
وأثرنا النفس غيظاً
داوياً مثل الوعود
أساف ونائلة"(55)
فهذا التقسيم المتوازي بين الجمل وعدد الكلمات المتجانسة في هذه العبارات وتشابه مخارج حروفها الأخيرة هو من صميم فنية اللغة العربية وأحد أوجه وجودها الفني.
فلم يكن الوزن والسجع غاية الكاتب وإنما فرضته اللغة في انتقالها وتحولها من اللسان، وكأن المسعدي يجانس بين النغم للرقص فلا رقص إلا بنغم وبين السجع للغة ولا وجود للغة أدبية إلا بتناغم في جميع مستوياتها.
أو قوله في مولد النسيان "وكانت السادسة أشدّهن عليها ظلاماً قتاماً.. فقال: "أيتها الأكوان كوني"(56) فالكيان كلمة، والوجود عليه يكون كلمة توجده اللغة أو تلغيه ولها أن تنهيه.
واختياره لشكل رواية حدث أبو هريرة قال على طريقه الحديث والسند هو نوع من محاولته بعث الأساليب القديمة وإمكانية إعطائها وظائف تختلف عن وظائفها السابقة وهو نوع جديد في وجودها، مثل "حدث أبو هريرة قال" أو عدم اتفاق الرواة، "قال أبو عبيدة"، وتلك كانت طريقة رواية الحديث أو نقل الأخبار في القديم.
ولشدّة انشغال غيلان بالسد، وجعله محور فكره وهاجسه، فإن كلمة (سد) تكررت في الرواية كثيراً، لأنها رمز الخلق والجهاد وحركة غيلان، وما قدر له من شأن من هذه الحياة.
وكلمة (جبل) تكررت قرابة الأربعين مرة، لأنه يشكل الإطار المكاني للرواية، وما يمثله الجبل من عظمه في الخلق التي تكررت هي الأخرى أكثر من ثلاثين مرة، ذلك أن الرواية تقوم على الفعل وخلق ما يذهب بالقحط فيعيد للأرض النماء والعظمة.
وفي مولد النسيان تتكرر كلمة موت ثمانين مرة لأن كل هم مدين كان طلب الخلود وإيجاد دوار لعدوه الموت، الذي يقف عائقاً في وجه طموحه وفي محاولة تخليد الجسم ويسبب له الحيرة والقلق حتى أصابه جنون الموت.
وكلمة (إيمان) ترد في "حديث الغيبة تطلب فلا تدرك" سبع مرات وكلمة (كفر) أربع مرات، فقد دخل أبو هريرة الدير لتطهير نفسه من الذنوب ولأجل الإيمان، ولكنه خرج كافراً بالدين.
ووظيفة هذا التكرار تعميق الإحساس بالقضايا التي تعالجها الرواية والشعور الذي تعيشه الشخصيات، ومن أجل الغرض نفسه يعتمد المسعدي على عنصر المقابلة في الكلام والمواضيع وبين طبيعة الشخصيات، ولبيان صراع الإنسان في الوجود وصراعه للمجهول والطبيعة وراعه مع أخيه الإنسان من منطلق حب السيطرة لدى الإنسان.
فقد كان المسعدي "خصب الخيال، نافذ العقل غني اللغة، يشيع الحياة والعقل والمنطق في الجبل وصخوره وحيوانه المستأنس والمتوحش"(57). فهو يرى الحجارة تتحرك، فإذا من صفاتها الروح والكلام، ويرى الشيء المعنوي فإذا صورتها مادية وروحية خالصة.
وفي موضع آخر "وأدركت نائلة أنه عاوده الرحيل، وكره الشجرة على الطريق باردة الظل تدعوه أن يقف ويستريح"(58). فقد بث في هذه الشجرة ذات الظل البارد روحاً تحس بمشاق سالك الطريق فتدعوه لأن يستريح. وفي ذلك إغراء لغيلان بالتوقف وهو ممن يرفض التوقف والاستراحة.
وهذا له نظير في مولد النسيان، تقول ليلى: "والله ما رأيت كهذه الأرض أنثى تضيع وتعوي من قلة الصبر"(59). فقد أصبح هذا الكوكب الجامد ذا حس وشعور، وشوق كمن ابتعد عنها زوجها فلم تعد تطيق صبراً، وهي أرض تنتظر من يبث فيها الحياة والخصب.
فهذه الصور الذهنية "تعيد تشكيل المدركات وتبني منها عالماً متميزاً في حدّته وتركيبه وتجمع بين الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة تذيب التنافر والتباعد وتخلق الانسجام والوحدة"(60)، فتتداعى العلامات اللغوية في سهولة خالقة لكيان جديد خاص بها.
وقوله في "حديث الطين" عن الريح وقد كشفت له عن أنيس: "إلى أن كشفت بي عن رسوم بالية فيها جمجمة بالية فذهب ذلك بوحشتي ونزع فرحي"، فصورة الجمجمة البالية كان من المفروض أن تثير فيه الرعب والخوف، إنها هنا تذهب بوحدته ووحشته، وهي ترمز إلى أن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بعلاقته مع الآخرين، ومن طبيعته أن يعيش بين الناس، وفي الوقت نفسه فهي تزيل عنه فرحته لأنه ظنّ أنه لن يلاقي إنساناً قط بعد أن فرّ من كل قنوع خانع.
ومن منطق الرمزية اللغوية تعدد الإشارات والإيحاءات في رواياته، فرواية السد ترتكز على جملة من الرموز اللغوية التي تعبر عن الفعل والجهد والخلق، ففي موضوعها المتعلق بإنشاء "سد"، رمز للبناء والنماء والحياة والقضاء على القحط والجدب، ورمز لإرادة الإنسان يسعى إلى تحقيق كيانه وبلوغ هدفه وفرض وجود والسعي لآخر يكون أفضل منه.
وغيلان كما قال عنه المسعدي "رمز الإنسانية الباسلة المتجاوزة لحدودها المتسامية إلى الوصال والاتحاد"(61).
وليس هذا الاتجاه إلى الرموز إلا إغراقاً منه في إيمائية اللغة وتوالد دلالاتها وتداخلها وفرضها لمنطقها، فيتداخل الأسطوري بالواقعي والخيالي بالمدرك، وتجد أساف ونائلة مثلاً محلاً لها من رواياته، فيرد سبب رحيل أساف عن نائلة لأنه كره أن تكون بيتاً ثابتاً وفي عدم مساعدة ميمونة له وبقائها على طبيعتها دون أن تتغير شبه من نائلة "فكان يخشى أن تنقلب الحركة والرحيل والشوق إلى صخرة وقوف"(62)، وفي هذا قلق الوجودي على مصيره.
وقد شبّه طه حسين غيلان "بسيزيف" ألبير كامي ويمكن أن يكون ذلك في النكبات التي لحقت بالسد، غير أنها لا تشابهها نهائياً في نهايتها، فالسد كتب قبل أسطورة كامي وجهد سيزيف عند كامي جهد لا ينقضي ولا ينتهي، جهد لا غائي فالصخرة دائمة الانحدار وسيزيف معها دائماً وذلك ما قدر له.
أما جهد غيلان بعد المحاولات المتكررة فقد أقام السد وحقق أمنيته وترك السد بعد أن أكمله وقد سألته "مياري" ولعلها تكون رمز الحياة والجمال والطموح والإرادة، فقد رأى ذلك السراج في منتهى الغاب "أنظر إليه يدعونا زجاج صفاء، وعزم أمنية، أنظره قراراً في الزلازل على الزلازل". وهو انطلاق إلى وجود غير وجود السد، فقد اتجه مع مياري إلى ذلك النور رمز الأمل والخلق ثانية، غير آبه بالسد.
وفي التحاق مدين بغاب رنجهاد أيضاً رمز إلى قصور الفكر عند المسعدي، وأن المعرفة الكاملة تكمن في بعض جوانبها في السحر، وذلك الغاب رمز المجهول وما غاب عن الإدراك ورمز للزمن الذي تخفي صورته عن الإنسان، ففي الغاب تتجسد حركة الزمان أمام عين مدين ويرى بعد أن غشيه الدوار "هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي وتكتسي لحماً وألواناً"، وكان ذلك أمله في الوجود التغلب على الموت وبالتالي التغلب على الزمن فيمتلك خاصية الزمن.
وهذه الاستكانة والاستسلام ثار عليها أبو هريرة في "حديث البعث الأول" بعد أن كان قانعاً مسلماً بكل ما هو موجود، وبعد خروجه من المدينة التي رمز بها إلى عدم الصفاء إلى الطبيعة مصدر كل شيء في صورته الأولى التي خلق بها، ورؤيته الفتى والفتاة وهما يرقصان عاريين فتحول كل شيء داخله، ورأى في ريحانة أنها كانت تحول بينه وبين اتحاده بالمطلق.
وخلاصة القول أنه لما كان النسق اللغوي هو الحامل للفكر وللإحساس، والحامل لمتناقضات الوعي واللاوعي، والوجود والغيب، وهو الذي يساير والصيرورة الزمنية، لذلك يرى "المسعدي" أن لكل وجود نسقه اللغوي. وعليه فالوجود العربي مختلف عن أي وجود آخر لانتمائه إلى اللغة العربية التي تختلف في نسقها عن غيرها، ولها كيانها العلاماتي الخاص بها، لذلك كانت لغة "المسعدي" في رواياته فصيحة بعيدة عن كل عامي ودخيل، في زمن بدأ التراجع عنها، وبدأت لغة وثقافة الآخر تحاول طمس كيانها وكيان المنتمي إليها، وجد "المسعدي" في اللغة العربية ومن نسقها الدلالي الذي يحمل رموز اللغة من خلال جدلية الذات/ اللغة إمكانية بناء كيان ووجود خاص.
فتنوّع مفرداتها ولا نهائية طرق إعادة تركيبها وتنسيقها، معجمياً ونحوياً وصرفياً ودلالياً وصوتياً، جعلها متجددة بتجدد الفعل والحركة والخلق في الوجود، مفسرة للمتناقضات والمتشابهات، للحقيقة والعبث، للشك واليقين، للقلق والسكون، للحق والباطل، وخالقه لكيانات خاصة بها لا تعرف إلا لها، سامحة بالابتكار فيها طواعية كلما اقتضى الوجود والكيان ذلك. فكما تهيم الذات في البحث عن هويتها تهيم اللغة معاً في البحث عن نظام لها يمكنها من تجسّد نفسها كلغة، وتجسيد لهوية الذات كوجود.
لذلك راح المسعدي يهتم بالوجود الإنساني وبالعلامة اللغوية في خلقها لذلك الوجود والتعبير عنه لأن الإنسان أيضاً نتاج اللغة، "ولا يمكن فهم ذلك فهماً صحيحاً ما لم نسلم بوجود رابط بين الرغبة واللغة، وما لم نعرف الذات نفسها باعتبارها كائناً متكلماً كما يفعل "لاكان" إن ما يعين الوجود البشري بالنسبة "للاكان" تعييناً أحسن من غيره هو أن الفرد يظهر ضمن عالم يوجد فيه شيء ما وجوداً دائماً وقبلياً: أي توجد فيه اللغة"(2).*
وعليه كانت العلامات اللغوية الوسيلة التي اعتمد عليها المسعدي في تصوره للوجود والكون كوجود وللغة في حد ذاتها كتأصيل لذلك الكيان وذلك الوجود في كتاباته، لأنه بغياب اللغة يغيب التعبير عن الكيان ويغيب الخلق.
ويجمع الذين تناولوا اللغة المسعدي بالدراسة على أن اللغة طاوعته واسترسلت له فصاغها كيف ما شاء، وتفرد باستعمالها وتركيبها وانتقاء مفرداتها واختيارها، يقول طه حسين عن لغته: "أما كاتبنا فقد أذعنت له لغته إذعاناً واستجابت له في غير مقاومة ولا عناء وأخشى أن تكون قد استجابت له أكثر مما ينبغي فأطمعته في نفسها وأغرته أحياناً بأن يشق عليها ويرهقها من أمرها عسراً"(3). فكأن اللغة عالمة بما يريده منها فأطلعته عن أسرارها ومعانيها وإمكاناتها وكانت علماً على رواياته بما ميزتها عن غيرها من الروايات، وعنها يقول "توفيق بكار" في مقدمة رواية "حدث أبو هريرة قال": ""تتحرك في النص مشحونة بمادة الفكر الحديث ومثقلة في الوقت نفسه بتوالد معانيها"(4). فكان محولها منظوره للوجود وللحياة، وبعث لهما وبعث للوجود اللغوي متبنياً الفصحى وإمكانية تعبيرها عن أحدث القضايا وأعقد الأمور، لأنها علامات على الأشياء فتكون الأشياء كذلك وليس العكس وهذا ما ذهب إليه "ش س بورس" من "أن العلامة هي شيء ما ينوب لشخص ما عن شيء بصفة ما وبطريقة ما"(5).
وإذا كان هذا دأب اللغة، فإن المسعدي يرى أنها عندما تكون على نسق معين تكون خالقة لوجود من نسق خاص، وموجودة لذات من طراز معين، وإذا كان ذلك كذلك فهو يرى أن اللغة العربية الفصحى هي الكفيلة بالتعبير عمن ينتمي لهذا الكيان اللغوي ولذلك لم يستعمل مفردة عامية في رواياته قط، على الرغم مما ينادي به بعض النقاد من وجود استخدام العامية للحوار حسب نوعية الشخصية. ولذلك لم يورد المسعدي من الألفاظ إلا ما عرف في العربية أنه فصيح ولا يخرج عن هذا الإطار، فلا توجد في رواياته الثلاث مفردة عامية واحدة، فقد أمعن في الفصحى ولم يرد لرواياته غيرها. ولا يدخل فيها الألفاظ الدخيلة إلا ما شاع عن العربية أنها استعملته مثل هيولي: "البهاء المنبث من النور قيل عبرانية أو رومية معربة. وكلمة دهليز الفارسية، وشيطان وأصلها يوناني، وكلمة جهنم العبرية، ومارستان التركية، وصهريج: مكان تجمع الماء وهي كلمة فارسية". فهذه الألفاظ "دخلت في كلام العرب وليس منه"(6). كما هو وارد في لسان العرب لابن منظور.
وتلك الكلمات مع قلتها فقد ورد بعضها في القرآن الكريم كشيطان وجهنم واستعمل بعضها أدباء العربية في القديم "فهو يبتعد عن كل دخيل ومولد وكل عامي فالنتيجة واحدة بالنسبة لجميع هذه الأصناف أن المسعدي يتلافاها ويسقطها من كلامه بحرص شديد".
ولا يميل المسعدي إلى الألفاظ المستحدثة ولا يستعملها إلا في موضع واحد حيث ذكر كلمة هاتف ومذياع في السد، أو هي آلة سيبتدعها الناس يوماً ويسمونها المذياع أو الهاتف"، فالهاتف الذي يستعمل في الاتصالات في العربية يسمى المسرة، وقد استعمل المسعدي كلمة هاتف بمعناه القديم والمذياع بالمعنى الحديث.
وما طرح "المسعدي" العامي والدخيل إلا لأنه لا يرى فيهما أصالته ولا يمكنهما أن يحققا للذات العربية كيانها بعد الذي أصاب الذات واللغة العربية من حملات الاستعمار على شمال أفريقيا، ومحاولته طمس الهوية العربية وتغيير الشخصية بالتركيز على اللغة.
وفي حوار "لماجد السمرائي" مع "المسعدي" يكشف عن سبب تمسكه بالعربية "لأني لم أجد لغة تمكنني من التعبير عن أعمق ما أجد في أعماقي، وأعمق ما أشعر به في باطني، وأعمق ما أستنبطه وأقف عليه بتفكيري من اللغة العربية، هي لغة الدقة وهي لغة الباطن وهي لغة الدقائق في الفكر وفي الإحساس وفي الوجدان"(.
فهو يرى أن اللغة وجود ضامن للوجود تجعل هويته مختلفة عن كيان لا يعتمد هذه اللغة في تفكيره وذلك لإحساسه بالعلاقة الجدلية بينهما وعليه تكون الذات في انتمائها للعربية وطموحها وتحقق ذاتها تختلف في وجودها عن أي وجود آخر تكون لغته غير عربية، ولذلك عاد إلى الفصحى يبث فيها الروح من جديد بعد محاولات الطمس والتهميش التي تعرضت لها، فيعبر بألفاظ كثيرة لم تعد مستعملة الآن ويرى فيها البعض أنها غير مألوفة خشنة، ولكن الجو العام لرواياته وإطارها المكاني وشخصياتها وتكوينها وانتماءها اللغوي ومسعاها في الوجود يكون بلغة الانتماء والتفكير، ولذلك كانت اللغة علامة على كل ذلك، كوصفه الجبل في رواية السد، "نباته كالإبر، وأرضه ظمأى، وغباره كثير، وسماؤه صفراء"(9). مكان لا حياة فيه ورغم هذه الصفات يجب أن تخلق فيه الحياة ويكون ذلك بمحاولة غيلان إنجاز سدّ يروي عطش الأرض ويقضي على غبارها وأشواكها وفي نمائها وحياتها تحول في حياته وفي تغيير واقع الأرض تغيير لواقعه وتحقيق لوجوده.
ومثل هذه المناظر تكثر خاصة في رواية حدث أبو هريرة قال إذ يعود المنظر نفسه في نهاية هذه الرواية "فنظرت فإذا نحن وصلنا جبلاً حزيزاً صعوداً(10). إنه الانتقال في المكان والتحول من مدرك إلى آخر غير مدرك ومن الصعب تصوره وبناء على ذلك يتطلب منه اتخاذ موقف معين.
ويقول كهلان عن البئر "وكنت جعلت عليها عريشاً واتخذتها كنا ومكمناًَ إذا أصبت فيئاً أو سبت سبية"(11). ومثل هذا الفعل وإن كان من الصعلكة والاعتداء قد يكون تحولاً للذات في سعيها وتقلباتها في الحياة.
ومن المفردات اللغوية التي قل استخدامها، ولم يعد لها ميل هذه الكلمات التي وردت في رواياته الثلاث وكانت بمثابة علامات على أماكن ذات طبيعية خاصة وتنتمي لمنطقة جغرافية معينة وبيئة ذات وجود خاص ومنها يتحدد المكان في أدق تفاصيله.
السيفات: سفيه، سفا: ذرت الريح الرمل وحملته.
الحوم: القطيع الضخم من الإبل أكثره إلى الألف.
الدير: الدارات في الرمل بعد أن تهدأ الرياح.
ترهات: الطرق الصغار الغير الجادة، الواحدة ترهة(12).
وعلامات لغوية على فضاء من هذا النوع يتطلب من الذات المنتمية له تفكيراً يليه فعل خاص حتى تتمكن من تحقيق ذاتها وإخضاعه لقدرتها.
ويعود المسعدي لبعض العلامات الشبيهة بالعلامات اللغوية يجعل منها علامات على ما هو معلوم لدى الذات وما غاب عنها وعن التفكير وصعب على النفس تحديده، فيخترع له كلمات جديدة غير معروفة، مبهمة، ولا تخضع للميزان الصرفي المتداول تنفر منها الأذن ويتعطل اللسان في نطقها ولا معنى لها إلا ما تتطلع إليه هذه الذات في رواياته وتسعى إلى تحقيقه، وهذه الألفاظ واردة في إنجيل (صاهباء) وتسابيح الرهبان في رواية السد، والذي جاء ما يقرب من الفصل فيها على تلك الصيغة، إنها إشارات للوجه الآخر للوجود الذي لم يولد بعد وهي كوامن الذات وتشابك المعقول باللامعقول والغيبي بالواقعي.
ومن ذلك ما ورد في "حدث أبو هريرة قال" وما تقوله هذه العبارة في رطانة حادة، "فكذب وعصى (بنضلد لم) ثم أدبر يسعى (بنهرتلغم) فحشر فنادى (برآنهندم) فقال أنا ربكم الأعلى"(13). وهو خلق على مستوى العلامة اللغوية وأصواتها وتحد في مستوى فعل الشخصية الروائية وطموحها لذلك دخلت البربرة على الآية القرآنية ]فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُكُم الأعْلَى((14).
وإدخاله لهذه الكلمات على هذه الآية القرآنية ــ مع العلم أن كلام الله منزّه من ذلك ــ لأنه يريد أن يبيّن وجودين مختلفين لبطله وقد ألمّ به الشيطان في النوم. فالحلم يختلط فيه الوعي باللاوعي، ومنطقه غير منطق اليقظة وبالتالي الوجود فيه مخالف لوجود الواقع.
وفي رواية السد يرتّل الرهبان سدنة "صاهباء" هذه التراتيل:
مدرا دافق
ظنوى غافق
بركم الضناهم
كعفر الجلاهم
عميا دافق
فضوى غافق(15)
فقد جاءت هذه التراتيل التي يركبها المسعدي من أصوات لغوية دون أن تدل على شيء سابق معروف في اللغة، ولا يخضع يعضها إلى مقاييس اللغة العربية، وبها إبهام سجع الكهان، الذي يظهر فيه الرهبان سدنة صاهباء في دعائهم وترتيلهم وأصواتهم المبهمة التي جاءت عمداً غير دالة على معنى، "لأنها لغة الذين ليس لهم ما يقولون، بل الذين ليس فيما يقولونه شيء يستقيم للعقل وللمنطق"(16).
وكأنه نوع آخر من الوجود للعلامة اللغوية في إيجادها لعالم غير منطقي وغير معروف "فاللغة لا تشتغل أبداً وبصورة عملية عبر صورة بسيطة ذلك أن الكلمات المحاكية للصوت "ONOMATOPIE" التي يكون الدال ضمنها من حيث مادتها الصوتية وبصورة تقريبية هي الصورة السمعية للمدلول الذي تصحبه خصائصه ترتبط هي نفسها بالرمز أكثر من ارتباطها بالصورة"(17). بينما تخلو رواية "مولد النسيان" من مثل تلك المفردات وهي أكثر إغراقاً في الفصيح المتداول من الروايتين السابقتين، ولذا كانت الفصحى في رواياته علامات دالة على نفاذ عقل باستعمالها ومطاوعتها في نظمها وتركيبها على أنحاء وطرق كثيرة:
فإذا كانت هذه الروايات في العصر الحديث وبعيداً عن عصور العربية القديمة فإن العلامة اللغوية جاءت مرتبطة بالتراث الشعري وبالنثر العربي القديم وبالبيئة العربية الإسلامية، كاستعمال المسعدي لأسماء ذات دلالات قدسية: كالكعبة، والحجر الأسود، وغار حراء، والمدينة، وأبو هريرة، وإكثاره الاقتباس من الألفاظ الواردة في القرآن: كفعل مار: (ترهيأ، أي تحرك وجاء وذهب، ماجت، من قوله تعالى: ]يَوْمَ تَمُورُ السَمَاءُ مُوْراً وتَسيرُ الجِبَالُ سَيْراً[(18) وكلمة كثيب: تلال الرمل، وفي التنزيل العزيز: ]وكانَتِ الجِباَلُ كَثيباً مَهِيلاً((19) أو فعل كشط )وَإِذَا السَمَاءُ كُشِطَتْ((20).
والفعل نفسه يذكر بقول الشاعر:
ومستنبح تستكشط الريح ثوبها
ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
و]حجارة من سجيل[، و]خلق الإنسان هلوعاً[، فكل هذه الألفاظ واردة في القرآن الكريم. ولفظ يسح الذي جاء في قول امرئ القيس:
وأضحى يسح الماء عن كل فيقة
يكب على الأثقال دوح الكنهبل
أو كلمات ضاربة في القدم راسمة لإطار المكاني أو الشخصيات في رواياته، مثل تلك الرمال الندية وتلك الأودية بها صدى هواتف الجن. ومعاجيل: النخيل التي تنتج قبل أن يستكمل الحول. أو لفظ والهة: شديدة الحزن على ولدها. أو صورة هذه الجارية المتعبدة والتي يضفي عليها صفات روحية وحسية، ليس بالإمكان تخييلها إلا من خلال اللغة، وكأن وجودها في تكوينه الجسدي والروحي ما هو إلا صورة أخرى للعلامة اللغوية وفيها يقول:
"رأيتها متفتحة إلى الشمس كالذائبة لذة"(21). فهذه الصورة يتم إيجادها من خلال اللغة التي تصور الأشياء بطريقتها الخاصة، وتجعل منها جارية من نموذج خاص، فتناسب هذه الرموز اللغوية وتكاثف علاماتها هو الذي يصور الأشياء على النحو الذي تريده ويرتبط بمنظومتها، تقول ميمونة في السد لغيلان: "فما قدر لك غير الشروع كبعض الأفعال من أخوات كاد"(22). فما تقوله ميمونة هو من أمارات معرفتها بقواعد اللغة واستعمالاتها، يوافقه فهم عميق منها لحال غيلان في بحثه المستمر عن الوجود، إذ كان لا يكاد يشرع في فعل حتى يتركه لشروع في آخر وهذه من صميم وجودية نيتشه، وتكون القاعدة النحوية هي الأخرى دالة على أفعال غيلان بطل رواية السد.
وينم ذلك على تمازج بين فكر المسعدي واللغة وبين مختلف استعمالات الكلمة والحروف ومعانيها، فإذا حدث وأن تكررت الكلمة نفسها مرات عديدة في السياق، فإنها تأخذ في كل مرة معنى جديداً، ففي حديث الكلب ترد كلمة (أصاب) عدّة مرات في كل مرة تتجلى بمعنى يختلف عن المعنى السابق له، يقول كهلان: "أرحمه فأصيب فيه ثواب المغيث"(23). فأصيب هنا تعني أنال جزاء وثواباً، وفي قوله: "هل أصبت في طريقك منفرداً"(24). يريد القول هل لقيت في طريقك، والكلمة نفسها يصبح لها معنى آخر يختلف عن معناها السابق "وكانت تصيب أبا هريرة عند هاجرة كل يوم نوبة شديدة"(25). فكلمة تصيب في هذه الجملة تعني تنتابه حمى شديدة. ويرد فعل "أدركت" بمعنيين مختلفين في موضوع واحد في مولد النسيان "أدركتك قبل أن تفوتني بلا رجعة" لحقت بك. "أدركت أنك لم تنس أسماء"(26). عرفت وتأكدت.
أو استعماله لفعل قال في السد:
"سألتها فقالت: أنها تتطهر" بمعنى أجابت.
"جاءها يوماً فقال: إني راحل عنك"(27) يعني أخبرها.
"فقالت وما طريقي بعدك؟ (سألته) فقال: العقبة الوعرة" أجاب.
فهذه الدلالات المختلفة هي وجود دلالي لا نهائي، وبالتالي متجددة بتجدد وجودها داخل السياق وحياتها ترتبط به، ولا وجود لدلالة سابقة عن ذلك، فهذه الكلمات تعني شيئاً، وتقول شيئاً آخر، لأن المعروف عن الألفاظ لكونها رموزاً لغوية في حالة نسيان دائم لماضيها الدلالي، ومن خلال استعمالها تكتسب كيانها ووجودها.
وتتواءم مكونات اللغة وما يريده أبطال روايات المسعدي، فتكون معبرة عمّا يفكرون فيه ويشعرون به ويختلج في سرائرهم، فعن شعور خاص لمدين في "مولد النسيان" يقول: "وكنت تجعلين نعومة يديك على فمي كالمنى تسري من القلب.. ألا تقتربين.. فأجد لين أيام كنت معي في الحياة"(28). فهو يشعر أنها كانت معه في الحياة ولم تعد كذلك، ولم يعد يجد طعماً معها لهذه الحياة لأن الموت يطارده ويبحث له عن الدواء فلا يجده فعساه يجد الحياة عندها، ويدعوها كي تشاركه في البحث عن ذلك الدواء مصدر الحياة.
فالرموز اللغوية ميالة إلى ما يريده الأبطال وتسمح به هي عن نفسها، كموضوع الحديث عن النفس وبما بها من أحزان وآلام وتوافق الألفاظ الدالة على الكآبة وعدم الاطمئنان مع الحالة النفسية لمدين الذي يقول لليلى: "ثم نظرت فإذا الأحلام فانية والأماني ترحيها شديداً رحى الزمان وتذروا هباءها ليالي وأيامي"(29). فما تجيزه اللغة هو الذي يرحى ما لا يرحى كالأماني والأحلام مثلاً، ويجعل للزمان رحى معها يقضى على كل شيء، وهذا تعبير عن صيرورة كل شيء للفناء بدائرة الزمن الذي لا يفنى، وكأن الأشياء خلقت من العدم وله، وحياتها في عدمها.
وحين يتكلم "أبو هريرة" عن الخمر يصبح لها وجود مختلف عن المألوف، فيتطلع لضياء لون الخمر في أحشائه، فكان "أبو هريرة" في حديث الوضع "يبعث بكأسه في النور" ويقول: "يا لهفي على خمر تغشاه ظلومات الأحشاء وددت والله لو تبع البصر ضياءه فيها"(30).
ولما كانت رواياته عن الخلق والفعل والسعي لتحقيق الكيان وفي ذلك بعث للوجود فإن اللغة كانت في هذا الشأن حادة اللهجة شديدة قوية الرمز تفوح برائحة التحدي فهذا غيلان يفصح عن إرادته في السد: "سننشئ وسنخلق، سنعلم هذه الأرض الشجاعة والعقل والبأس، والشدة، ونهز أهلها هزاً... ونستخدم نبيّهم ورجالهم ونساءهم وحتى "صهباءهم" ومالهم من قدرة.. وننفخ في كل شيء حياة"(31). إنه وجود في مستوى اللغة يؤكد عزيمة غيلان فالأفعال المتتابعة والمفعول المطلق هزاً، ودلالة العبارة على المستقبل مع شدة في لهجة المفردات، إذ سيسخر كل شيء يمكن أن يكون في الكون لإرادته، وهذا ينبئ بتكامل بين الفكر واللغة والإرادة في هذه الرواية، ومنه ينطلق المسعدي في "محاورة مبادئ ومفاهيم حيث لا يمكن أن يعبر بغير تلك اللغة، ولا يمكن أن تكون لها أفكار غير تلك وإلا انهار السد"(32).
فطريقة تركيب الكلام، واستعمال الكلمات في الجملة دليل على أنه ليس للكلمة قيمة تعبيرية، وبالتالي وجود ما لم تترجم عن الذات وكيفية إدراكها الأشياء، وحسن تنسيقها يعطيها الحركة ويبث فيها الروح فتسري الجمل بالأفكار، وبما يختلج في النفس من أحاسيس، كالحيرة والاندفاع، والطموح.
فما هي طريقة المسعدي في جمله وكيف يركبها؟.
إن الجمل من حيث الشكل طويلة، وأخرى قصيرة ومن حيث التركيب اسمية وفعلية، وأكثر ما يستعمله المسعدي في روايته الجمل الفعلية "فالجملة المبدوءة عنده بفعل تفوق الجملة الإسمية"(33). والسبب في ذلك أن روايته ترتكز على الحوار والجدل، وموضوعاتها تتعلق بالفعل والخلق، وفرض الذات لوجودها، ومحاولات الأبطال تحقيق أهدافهم لا يكون إلا بالحركة والفعل، وشخصية مثل أشخاص المسعدي وقد قال عن بطله: كان كالماء يجري لم نقف له في حياته على وقفة قط.
فالوجودي لا يعرف الاستقرار والثبات والتوقف وإلا كانت نهايته، ومن كانت هذه طبيعة حياته، فكيف يمكن للمسعدي أن يرصد حركاته دون اللجوء إلى اللغة من خلال الجمل الفعلية التي تتطلبها مثل هذه الحركة الدائبة للشخصية، وما تميزت به موضوعاته من صراع بين الحياة والموت، وبين الحركة والسكون، والتقاعس والإرادة، وبين أن يكون الشخص أو لا يكون، وبين الغلبة في الحياة من عدمها.
ولهذه الجمل الفعلية عند المسعدي "استعمال خاص، فهي قصيرة تكتفي بفعل وفاعل ومفعول به"(34). وذلك حينما تكون الأحداث سريعة ويكون الصراع شديداً بن الأبطال فيما بينهم، أو بينهم وبين ما في الكون، يقول غيلان:
ــ دعي يا ميمونة الخيمة
ــ إلى أين؟
ــ نطلب فرجة وفسحة(35)
لقد كان غيلان في ضيق وقلق، وهذا الحوار تعبير عن قلق الوجودي من التخييم أي حط الرحال والثبات، وبالتالي طلب من ميمونة أن تخرج معه حتى يتخلص من السكون الحاصل وتتخلص معه ميمونة من ركونها في الخيمة، ومن تشاؤمها.
ويخاطب مدين أسماء فيقول لها: "صارعت الموت، وناصرت الحياة، قالت: احذر فإنه من صارع الموت قد مات"(36).
فمدين يخبر أسماء بما فعله بعد رحيلها عنه، فحصر فعله في (صارع) و(ناصر) وبهذه الصيغ الصرفية الدالة على الاستمرار وقضاء وقت طويل في البحث عن إكسير يقف في وجه الموت ويضمن له الحياة، وحاول كثيراً ولم يفلح في إيجاد دواء وما تغلب على الموت.
وهذا النوع من الجمل الفعلية القصيرة "في حديث أبي هريرة قال: "قليلة لاعتماد على السرد والوصف، وطغيان رواية الخبر مما استدعى استعمال الجمل الفعلية الطويلة، وهي التي لها إمكانية التفسير، ومناقشة القضايا وتحليل تشعباتها، من ذلك ما ورد في حديث الحق والباطل" فدخلنا عليه مرة فوجدناه بفناء بيته وقد بسط فيه فرشاً خفيفاً، وجلس فأطرق وسجا، فسلمنا وقلنا وقد أدركنا فيه هماً باطناً، فيمَ هذا الوجوم"(37).
فقد تتابعت أفعال ثلاثة "جلس وأطرق وسجا"، وذلك لبيان الحالة التي أصبح عليها "أبو هريرة" فهو في حالة أخرى من الوعي غير واعٍ بما يجري حوله فقد دخلوا عليه وسلموا وسألوه عن سبب سكونه وإغراقه في التفكير وهو لا يجيب.
وفي السد يدور الحوار بين غيلان وميمونة عن العقبات التي اعترضت السد، وجهوده وإقامته، وانتصاره على العقبات، فتطول الجمل لسببية ترتبط بالأفعال، ولسببية أخرى ترتبط ببناء السد، تقول ميمونة: "ثم ألم ينفجر عليك ماء دافق في الشهر الثالث جرف أعلى سدك وحطم شهرين كاملين من عملك وجهودك. غيلان: بلى ولكننا تألبنا على المياه، فرفعنا ما حطمت وعمرنا ما أخلت ورددنا السيل ونفينا الجرف"(38).
فقد اضطرت ميمونة لاستعمال أفعال دالة على خيبته من مثل: انفجر، جرف، حطَم، وهي علامة على الفشل وتحطم بناء السد وجهوده، وبالتالي مرحلة من وجوده ليعارضها بأفعال غاية في البأس والتألب على ما هو حاصل من مثل: تألبنا، ورفعنا في مقابل انفجر، وعمرنا ونفينا في مقابل جرف، ورددنا في مقابل حطم، ويبين هذا عن صراع حاول فيه كل واحد منهما أن يقنع الآخر بمنطقه، فيقابل غيلان كل فعل تستعمله ميمونة بفعلين غاية في التحدي وإذا كانت هي قد استعملت المفرد فقد عارضه بصيغة الجميع مع الضمير "نا" نحن الدال على الوحدة والقوة أيضاً.
وبتعدد الأفعال وتعاقبها تحدث عنها الاستنتاجات والاستجابات، فتداعت الأفعال "تألبنا" ورفعنا و"عمرنا" فأدى ذلك إلى فعلي رددنا ونفينا، ويكشف طول الجمل هذا إصرار غيلان على الفعل واستمرار فيه، وعناد الوجودي للوصل إلى المبتغى دون كلل، ومواصلة الدرب لتحقيق الذات، ففي تألبنا على المياه، سيطرة على قوى الطبيعة، وفرض للذات لذاتها في الكون حتى أمام طوفان المياه.
ويحدث مدين ليلى عن الروح بعد أن تتخلص من الجسد وقد "ذهبت هائمة، يسكنها الزمان وتحيرها الذكرى، ويزورها ما انقضى من حياتها يتحرك فيها ما ضاع من آراء وأحلام وأفراح إلى الأبد، فإذا همت أن تقف وتستريح لدغتها عقرب الزمان فسارت"(39). فتلك الروح أصبحت هائمة لأن الذكرى تحيرها، والزمان يحركها، فهي لا تكاد تقف حتى تلدغها عقرب الزمان فتعود إليها الحيرة من جديد؛ حيرة على ما ضاع منها فلم تتمكن من تحقيقه، ولو حققت آراءها وأحلامها وآمالها ما حل بها ذلك، ففعل "لدغ" في الجملة طابق بين فعل الوخز والحركة، فمع اللدغة تقفز الروح سائرة في حركة دائمة لا تعرف السكون، لأنها مسكونة بعجلة الزمن، وإذا كانت هذه حال الروح بعد الوفاة فما بال صاحبها راكن إلى السكون وهو على قيد الحياة.
وهذه الجمل الفعلية تكون منفصلة حيناً وتكون متصلة بالجملة الاسمية أحياناً أخرى. فإذا كانت هذه وظيفة تلك فما وظيفة هذه؟.
للجمل الاسمية القصيرة والطويلة دورها في كتاباته، وهي ثرية بالدلالات المختلفة، مساهمة في بلورة معنى الوجود، فيرد فيها فقط ذكر ما تحتاج إليه، ويحذف منها كل لفظ زائد، تقول ميمونة "الذئب صوتك يا غيلان" فهي تعني عواء الذئب، فقد حذفت كلمة عواء في الجملة، لتكون دالة عن عمق الحالة النفسية التي كان عليها غيلان، وكشفت ألمه في هذه الحياة، فالذئب دائم العواء وفي جوع مستمر، وكذا غيلان في توقه للفعل، وهوسه ببناء السد.
وقالت ليلى لمدين "في مثل هذا العشي" إن ما دفع ليلى أن تخص تلك العشية بالحديث لأنها عشية تختلف عن عشية الأمس، ولها نظير في السابق، وإنها استهوت ليلى فأعادت إليها ذكريات سابقة، وعبرت الجملة عن جديد مضى وقديم استجد، حالة نفسية سابقة وأخرى آنية شبيهة لها وفي ذلك إشارة لعبثية ما يقوم به مدين فتذكره بالماضي يعود مرة أخرى.
وسألت ريحانة أبا هريرة عن السبيل الذي اختاره لنفسه، فقال: "العقبة يا ريحانة"، فلم يضف المسعدي إلى هذه الجملة أي فعل أو كلمة أخرى، واكتفى بعبارة العقبة يا ريحانة، لأن السبيل الذي اختاره صعب بالنسبة لهما، وترمز هذه الجملة من قصرها الشديد إلى أنه سيتركها بعد أن كانت سكناً له، هو لا يحب السكون ومن كانت هذه حاله فإن حياتها ستكون صعبة معه ومن دونه، لأن لكل وجهة في الحياة، فقد اختارت الثبات وفضل هو الحركة والصعود وعليه ستكون حياته أصعب لأنه سيكون كالسالك طريق العقبة.
فهو يحذف من الجملة كل ما من شأنه أن يجعلها أكثر طولاً مما تضمنه من معنى، فيعبر بأقل الكلمات عن أغراضه التي يريد التعبير عنها.
وفي مولد النسيان يتحدث مدين عن طبيعة "رنجهاد الساحرة": "فيها احتقار للناس غاية"(40). والتركيب العادي لهذه الجملة يتطلب أن يكون على النحو التالي: فهي تحتقر الناس غاية الاحتقار، فهو يحذف التكرار، ويركز على كلمة "احتقار" ثم يأخذ الصفة "غاية" ليبين مدى احتقارها للناس، فكأن الذي يلجأ إليها محتقر لذاته متخلّ عن وجوده.
ويقول غيلان: "لا حاجة إلى مأدبة" وكان يمكن أن يقول لا حاجة لنا في إقامة مأدبة فخلص بذلك جملته من الألفاظ الزائدة التي لا تضيف شيئاً للمعنى، فيحقق غرضه بأسرع ما يمكن.
والواقع "أن الفرد لا يمكنه عندما يتكلم، سوى تمرير حاجته المزعومة يريد إرضاءها عبر بعض الطلبات، أي عبر اللغة. والحال أن هذه الأخيرة خارجة عن الذات، وهي دائماً موجودة ــ هنا قبلاً ــ لدى مجيء الذات إلى العالم"(41). ففي خروج أبي هريرة هائماً على وجهه، وموت الجهات الست عنده، وعدم قدرته على تحديد وجهته، انغلاق لسبل الحياة أمامه وعدم جدوى مسيرته، وضياعه فكراً وزماناً ومكاناً، فكان يقول في حديث العمى: "لقد ماتت الجهات الست. أو يقول من ضاعت قبلته فليسر ولا يطلب شرقاً ولا غرباً"(42). وهذا ضياع وجودي كلي على مستوى الشخصية، وبالتالي أدى إلى انعدام في مستوى الإدراك وليس انعدام في مستوى الواقع فالجهات موجودة ولكنها لم تعد مدركة من قبله، ولم يعد لها وجود، ولكن اللغة عبرت عن ذلك اللاوجود.
ولما كانت اللغة هي ركيزة التفكير وأن الإنسان يولد وهو مزوّد بملكات لغوية وراثية تخص انتماءه، فإنه عبر عمّا يريد بطرق شتى وألفاظ مختلفة القصد الواحد وإن كان المحمول مختلفاً، من ذلك قوله في حديث المزج والجد "قد قاما واضطرما كرمال الكثبان نشأة الريح" والمعنى قريب منه في موضع آخر من الرواية ذاتها "حتى رأيتهم كالسافيات تنفضهن الرياح" وهذه الصورة ترد مرة أخرى في حديث الطين: "واد.. لا تبرحه المعصرات المعميات" فكل هذه الصور على الرغم من اختلاف أسلوبها تعبر عن الرياح تذرو ما تجده أمامها، ففي تأصيل المسعدي لهذه الجمل أصالة القدماء، يقول محمد العلاوي عن سمة الجمل عند المسعدي أن "له من أناقة القدماء نفوره من التشعب في الجملة، أو اقتصاده في تعريفها فالجمل الطويلة أو المتلازمة قليلة باستغنائه في جملة عن الموصلات الكثيرة، ويكون النعت أو الجملة الحالية هي البديل الذي يغنيه عن التشعب في الجملة".
كقوله "وجلس إليها مدين في اطمئنان وسكون"، فالجملة الأخيرة تبيّن حالة كان عليها مدين ولم يستعمل فيها اسماً موصولاً، أو يكرر فيها فعلاً قد يزيد من تشعبها وطولها.
ولا يعني ذلك عدم استعماله للجملة الاسمية الطويلة، فهو يستخدمها بكثرة "وتربط في غالب الأحيان بالجملة الفعلية بواسطة حرف إذا الفجائية"(44)، وهي سمة غالبة في جمله وتلعب دوراً أساسياً في الربط بين الجمل، تقول ميمونة وقد رأت السد في نومها: "ثم إذا الجبل أمامي، فيتحرك وتمتد يداه، فيدفع الجماجم دفعاً دوياً، وإذا الجماجم تنفلق في شبه الصيحة.. وإذا الجبل يتقدم نحوي"(45).
فكأن زلزالاً يقتلع السد لذلك تعاقبت الأفعال ناقلة للأحداث ووقعها بسرعة مع قوة تأثيرها تطلب استعمال "إذا" التي تفيد هنا المفاجأ في تدافع حجارة السد التي كانت بمثابة جماجم لأنها تحمل أفكار غيلان وتدابيره.
وفي غاب "رنجهاد" نظر مدين "فإذا هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي ثم تكتسي لحماً وألواناً"(46) فإن "إذا" هنا تعبر عن الفزع الذي أصاب مدين في غاب رنجهاد الساحر، فهو ما كاد يستقر نظره على هياكل من رميم حتى فوجئ بها تعود إليها الحياة، وكأن أمنيته ما تحققت إلا في عالم السحر الذي لا يؤمن به وهو أيضاً عالم الغيب يحدث فيه كل شيء.
وفي "حديث البعث الأول" يصف أبو هريرة منظر الفتاة وهي ترقص "جعلت الفتاة تدور أو تقف وتقوم وتهبط فتقع في هيأة الساجد فإذا هي قائمة أو ترتفع فإذا هي ساجدة"(47). فما أفادته "إذا" في الجملة دقة الحركة واسترسالها في شكل معين بين الوقوف والجلوس، وتعلق أبو هريرة بهذه الفتاة ما هو إلا تحول منه عن السكون وكان له ميلاد جديد مع هذه الراقصة.
إن ميل المسعدي إلى هذا النوع من الجمل لما لهذه الصيغة من تنويع في دلالة الجمل على الأفعال الخاصة، ومن تأكيد على رمزيتها، ومن بث لروح الحركة في الفعل وفي الجملة، ومن تجديد لها بتجدد الوجود.
والغالب في رواياته هذا النوع من التراكيب والجمل، الذي تكون فيه الجملة الأولى تتميز بالسكون، كركود وسكون الخانعين غير المتطلعين من كثير من شخصياته، وعلى عكس الجملة التي تليها إذ تتميز بالحركة، فتتلاحق المعاني مسترسلة وراء بعضها بانية للفعل، أو مطورة للذات، أو معبرة عن سعيها في البحث عن كيانها وعدم الاستسلام لأي عائق، أو معرفة للثبات، وذلك شأن الوجودي في هذه الحياة.
ومن سمات لغة المسعدي التقديم والتأخير في الجمل فيعينه ذلك على تغييب المعنى والقصد الذي يريده، فهو في السد يصور نفوس القوم الذين رآهم غيلان عندما ذهب إلى الوادي "إنما هم قوم أفعمت نفوسهم مياه كاذبة"(48). إن الماء الذي يرده غيلان هو ماء التطهر الذي يجدد النفس روحها وحياتاها ويغسلها من كل ثابت ويحولها من حال لآخر، بينما النفوس في هذا الوضع، هي التي أرادت أن تكون نفوساً كاذبة تخيلت أنها تسقي ماء، وليس الماء هو الذي يملأ هذه النفوس فهي تعيش راضية بوضعها في وادي القحط.
وفي الرواية نفسها في "حديث العدد" قام أبو هريرة ينصح أحياء العرب: "فأنتم راضون؟ أما أن ترتفعوا إلى الشدة والبأس، ألا توقدونها حمراء ليس يردها جان ولا إنس"(49).
وأهل ذلك الوادي بطبيعته الموحشة القاسية وإذعان أهله للربة، وعبادتهم للقحط فقد استسلموا للفقر فدعا أفراده إلى الوحدة والثورة على واقعهم، فخرج بهم إلى الصحراء، يعلمهم كسب حياتهم وطريقة فرض وجودهم، وهو في دعوته هذه لهم شبه بدعوة "نيتشه" الذي يقول: "إني بحاجة إلى رفاق أحياء لا أموات أحملهم حيث أريد"(50).
وقالت ريحانة في حديث "التعارف في الخمر": "فحامت عيني فلاح لي وراء الجبل دخان كلا دخان"(51). تداخل الصور والموجودات وتماهي الأشياء، فلما أجالت نظرها، رأت من بعيد جبلاً ومن خلفه رأت شيئاً يشبه الدخان وليس بدخان، فكما يجري الحدث في الواقع تنتظم العبارة اللغوية في التركيب فتتأخر عبارة "دخان كلا دخان" الواقعة فاعل، لسببين أن الجبل أول ما رأت وهي متأكد أنه جبل وأن الدخان لم يكن واضح المعالم فتأخرت رؤيته.
كل ذلك دليل على أن المسعدي يعتني بالفكر واللغة والدين الذين يتبناهما فيعبر بمزاوجة بين المستوى الدلالي والتركيبي، فيؤدي ذلك إلى بعض الاستعمالات الخاصة للغة المعبرة عن تصور الوجودي للكون ففي السد، يقول غيلان عند وصوله الجبل: "إنه الجبل... وليس بجبل"(52). فالجبل الذي وصل إليه مرتفع من تراب يخلو من كل حياة، وهو يريده جبلاً يحبس الماء، وبالتالي يكون مصدراً للنماء والعيش والحياة.
وأغفت عين مدين في مولد النسيان "فكان منه كالنوم وليس بالنوم"(53) وهذا النوع من العبارات يصور حالات اليقظة والنوم أي بين الوعي واللاوعي وهي في الغالب حالات شعورية تعيشها شخصيات روايته. وكل هذه الأنواع من الجمل يوشيها السجع، ويبسط عليها جناحيه فيسيء إلى المعنى فتخال الجمل موزونة مقفاة كأنها شعر، فقد خرج مدين في مولج النسيان دون أن يحدد لنفسه مسلكاً، "فإذا مدين هائم على غير هدى انصرف من بيته فعدا، ثم تمهل فمشى، وخرج من باطن دويه فأصغى"(54). فهو يجري في الغاب تحمله رجلاه حيث لا يدري، فيتمهل ويمشي، وتهزه هواجس نفسه فيتوقف ليصغي لها، محتاراً بين كل ثنائيتين لغويتين وجوديتين.
وفي حديث القيامة يسمع أبو هريرة ريحانة تغني:
"هذه الدنيا إناث
كلها تدعو الذكور
يسمه منها لهاث
بدؤه بدء الدهور
أساف ونائلة
كم أردنا الروح فيضاً
جارفاً صخر السدود
وأثرنا النفس غيظاً
داوياً مثل الوعود
أساف ونائلة"(55)
فهذا التقسيم المتوازي بين الجمل وعدد الكلمات المتجانسة في هذه العبارات وتشابه مخارج حروفها الأخيرة هو من صميم فنية اللغة العربية وأحد أوجه وجودها الفني.
فلم يكن الوزن والسجع غاية الكاتب وإنما فرضته اللغة في انتقالها وتحولها من اللسان، وكأن المسعدي يجانس بين النغم للرقص فلا رقص إلا بنغم وبين السجع للغة ولا وجود للغة أدبية إلا بتناغم في جميع مستوياتها.
أو قوله في مولد النسيان "وكانت السادسة أشدّهن عليها ظلاماً قتاماً.. فقال: "أيتها الأكوان كوني"(56) فالكيان كلمة، والوجود عليه يكون كلمة توجده اللغة أو تلغيه ولها أن تنهيه.
واختياره لشكل رواية حدث أبو هريرة قال على طريقه الحديث والسند هو نوع من محاولته بعث الأساليب القديمة وإمكانية إعطائها وظائف تختلف عن وظائفها السابقة وهو نوع جديد في وجودها، مثل "حدث أبو هريرة قال" أو عدم اتفاق الرواة، "قال أبو عبيدة"، وتلك كانت طريقة رواية الحديث أو نقل الأخبار في القديم.
ولشدّة انشغال غيلان بالسد، وجعله محور فكره وهاجسه، فإن كلمة (سد) تكررت في الرواية كثيراً، لأنها رمز الخلق والجهاد وحركة غيلان، وما قدر له من شأن من هذه الحياة.
وكلمة (جبل) تكررت قرابة الأربعين مرة، لأنه يشكل الإطار المكاني للرواية، وما يمثله الجبل من عظمه في الخلق التي تكررت هي الأخرى أكثر من ثلاثين مرة، ذلك أن الرواية تقوم على الفعل وخلق ما يذهب بالقحط فيعيد للأرض النماء والعظمة.
وفي مولد النسيان تتكرر كلمة موت ثمانين مرة لأن كل هم مدين كان طلب الخلود وإيجاد دوار لعدوه الموت، الذي يقف عائقاً في وجه طموحه وفي محاولة تخليد الجسم ويسبب له الحيرة والقلق حتى أصابه جنون الموت.
وكلمة (إيمان) ترد في "حديث الغيبة تطلب فلا تدرك" سبع مرات وكلمة (كفر) أربع مرات، فقد دخل أبو هريرة الدير لتطهير نفسه من الذنوب ولأجل الإيمان، ولكنه خرج كافراً بالدين.
ووظيفة هذا التكرار تعميق الإحساس بالقضايا التي تعالجها الرواية والشعور الذي تعيشه الشخصيات، ومن أجل الغرض نفسه يعتمد المسعدي على عنصر المقابلة في الكلام والمواضيع وبين طبيعة الشخصيات، ولبيان صراع الإنسان في الوجود وصراعه للمجهول والطبيعة وراعه مع أخيه الإنسان من منطلق حب السيطرة لدى الإنسان.
فقد كان المسعدي "خصب الخيال، نافذ العقل غني اللغة، يشيع الحياة والعقل والمنطق في الجبل وصخوره وحيوانه المستأنس والمتوحش"(57). فهو يرى الحجارة تتحرك، فإذا من صفاتها الروح والكلام، ويرى الشيء المعنوي فإذا صورتها مادية وروحية خالصة.
وفي موضع آخر "وأدركت نائلة أنه عاوده الرحيل، وكره الشجرة على الطريق باردة الظل تدعوه أن يقف ويستريح"(58). فقد بث في هذه الشجرة ذات الظل البارد روحاً تحس بمشاق سالك الطريق فتدعوه لأن يستريح. وفي ذلك إغراء لغيلان بالتوقف وهو ممن يرفض التوقف والاستراحة.
وهذا له نظير في مولد النسيان، تقول ليلى: "والله ما رأيت كهذه الأرض أنثى تضيع وتعوي من قلة الصبر"(59). فقد أصبح هذا الكوكب الجامد ذا حس وشعور، وشوق كمن ابتعد عنها زوجها فلم تعد تطيق صبراً، وهي أرض تنتظر من يبث فيها الحياة والخصب.
فهذه الصور الذهنية "تعيد تشكيل المدركات وتبني منها عالماً متميزاً في حدّته وتركيبه وتجمع بين الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة تذيب التنافر والتباعد وتخلق الانسجام والوحدة"(60)، فتتداعى العلامات اللغوية في سهولة خالقة لكيان جديد خاص بها.
وقوله في "حديث الطين" عن الريح وقد كشفت له عن أنيس: "إلى أن كشفت بي عن رسوم بالية فيها جمجمة بالية فذهب ذلك بوحشتي ونزع فرحي"، فصورة الجمجمة البالية كان من المفروض أن تثير فيه الرعب والخوف، إنها هنا تذهب بوحدته ووحشته، وهي ترمز إلى أن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بعلاقته مع الآخرين، ومن طبيعته أن يعيش بين الناس، وفي الوقت نفسه فهي تزيل عنه فرحته لأنه ظنّ أنه لن يلاقي إنساناً قط بعد أن فرّ من كل قنوع خانع.
ومن منطق الرمزية اللغوية تعدد الإشارات والإيحاءات في رواياته، فرواية السد ترتكز على جملة من الرموز اللغوية التي تعبر عن الفعل والجهد والخلق، ففي موضوعها المتعلق بإنشاء "سد"، رمز للبناء والنماء والحياة والقضاء على القحط والجدب، ورمز لإرادة الإنسان يسعى إلى تحقيق كيانه وبلوغ هدفه وفرض وجود والسعي لآخر يكون أفضل منه.
وغيلان كما قال عنه المسعدي "رمز الإنسانية الباسلة المتجاوزة لحدودها المتسامية إلى الوصال والاتحاد"(61).
وليس هذا الاتجاه إلى الرموز إلا إغراقاً منه في إيمائية اللغة وتوالد دلالاتها وتداخلها وفرضها لمنطقها، فيتداخل الأسطوري بالواقعي والخيالي بالمدرك، وتجد أساف ونائلة مثلاً محلاً لها من رواياته، فيرد سبب رحيل أساف عن نائلة لأنه كره أن تكون بيتاً ثابتاً وفي عدم مساعدة ميمونة له وبقائها على طبيعتها دون أن تتغير شبه من نائلة "فكان يخشى أن تنقلب الحركة والرحيل والشوق إلى صخرة وقوف"(62)، وفي هذا قلق الوجودي على مصيره.
وقد شبّه طه حسين غيلان "بسيزيف" ألبير كامي ويمكن أن يكون ذلك في النكبات التي لحقت بالسد، غير أنها لا تشابهها نهائياً في نهايتها، فالسد كتب قبل أسطورة كامي وجهد سيزيف عند كامي جهد لا ينقضي ولا ينتهي، جهد لا غائي فالصخرة دائمة الانحدار وسيزيف معها دائماً وذلك ما قدر له.
أما جهد غيلان بعد المحاولات المتكررة فقد أقام السد وحقق أمنيته وترك السد بعد أن أكمله وقد سألته "مياري" ولعلها تكون رمز الحياة والجمال والطموح والإرادة، فقد رأى ذلك السراج في منتهى الغاب "أنظر إليه يدعونا زجاج صفاء، وعزم أمنية، أنظره قراراً في الزلازل على الزلازل". وهو انطلاق إلى وجود غير وجود السد، فقد اتجه مع مياري إلى ذلك النور رمز الأمل والخلق ثانية، غير آبه بالسد.
وفي التحاق مدين بغاب رنجهاد أيضاً رمز إلى قصور الفكر عند المسعدي، وأن المعرفة الكاملة تكمن في بعض جوانبها في السحر، وذلك الغاب رمز المجهول وما غاب عن الإدراك ورمز للزمن الذي تخفي صورته عن الإنسان، ففي الغاب تتجسد حركة الزمان أمام عين مدين ويرى بعد أن غشيه الدوار "هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي وتكتسي لحماً وألواناً"، وكان ذلك أمله في الوجود التغلب على الموت وبالتالي التغلب على الزمن فيمتلك خاصية الزمن.
وهذه الاستكانة والاستسلام ثار عليها أبو هريرة في "حديث البعث الأول" بعد أن كان قانعاً مسلماً بكل ما هو موجود، وبعد خروجه من المدينة التي رمز بها إلى عدم الصفاء إلى الطبيعة مصدر كل شيء في صورته الأولى التي خلق بها، ورؤيته الفتى والفتاة وهما يرقصان عاريين فتحول كل شيء داخله، ورأى في ريحانة أنها كانت تحول بينه وبين اتحاده بالمطلق.
وخلاصة القول أنه لما كان النسق اللغوي هو الحامل للفكر وللإحساس، والحامل لمتناقضات الوعي واللاوعي، والوجود والغيب، وهو الذي يساير والصيرورة الزمنية، لذلك يرى "المسعدي" أن لكل وجود نسقه اللغوي. وعليه فالوجود العربي مختلف عن أي وجود آخر لانتمائه إلى اللغة العربية التي تختلف في نسقها عن غيرها، ولها كيانها العلاماتي الخاص بها، لذلك كانت لغة "المسعدي" في رواياته فصيحة بعيدة عن كل عامي ودخيل، في زمن بدأ التراجع عنها، وبدأت لغة وثقافة الآخر تحاول طمس كيانها وكيان المنتمي إليها، وجد "المسعدي" في اللغة العربية ومن نسقها الدلالي الذي يحمل رموز اللغة من خلال جدلية الذات/ اللغة إمكانية بناء كيان ووجود خاص.
فتنوّع مفرداتها ولا نهائية طرق إعادة تركيبها وتنسيقها، معجمياً ونحوياً وصرفياً ودلالياً وصوتياً، جعلها متجددة بتجدد الفعل والحركة والخلق في الوجود، مفسرة للمتناقضات والمتشابهات، للحقيقة والعبث، للشك واليقين، للقلق والسكون، للحق والباطل، وخالقه لكيانات خاصة بها لا تعرف إلا لها، سامحة بالابتكار فيها طواعية كلما اقتضى الوجود والكيان ذلك. فكما تهيم الذات في البحث عن هويتها تهيم اللغة معاً في البحث عن نظام لها يمكنها من تجسّد نفسها كلغة، وتجسيد لهوية الذات كوجود.
Admin- المدير
- عدد المساهمات : 297
تاريخ التسجيل : 13/08/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد ديسمبر 16, 2012 1:52 am من طرف Admin
» توبة التائبين
السبت يناير 28, 2012 1:28 am من طرف Admin
» الحماسة في الشعر العربي
السبت يناير 28, 2012 1:26 am من طرف Admin
» Windows Live Messenger 2012
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:29 am من طرف Admin
» الفيلم الدرامي الرائع هليوبوليس
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:14 am من طرف Admin
» ولاد البلد
الأحد نوفمبر 20, 2011 7:09 am من طرف Admin
» دراسة في شعر الحماسة
الأحد نوفمبر 20, 2011 6:13 am من طرف Admin
» كلام من نور
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:28 am من طرف Admin
» يا رب استجب
الأحد نوفمبر 20, 2011 5:25 am من طرف Admin